النظرية الواقعية (Realism theory) مفهومها وتاريخها
This browser does not support the video element.
تتعدد النظريات التي تفسر حقيقة العلاقات بين الدول، والأسباب التي تقود إلى الحروب أو التحالفات، ومنها النظرية الواقعية التي ترتكز في تفسير ذلك على مبدأ القوة والأمن القومي وتوازن القوى، حيث تشكل هذه العناصر الأساس في تنافس الدول وصراعها وتحالفها وحروبها، وإذا كانت النظريات الأخرى كالماركسية والبنيوية والليبرالية تختلف مع النظرية الواقعية حول ذلك، فإن تجارب الحروب من عهد إسبارطا وأثينا وحتى الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الحرب الباردة، تثبت أن النظرية الواقعية هي الأقرب إلى الصحة في تفسير علاقات الدول، وبشكل خاص في عالمٍ تحكمه القوة والمصالح.
النظرية الواقعية.. القوة هي الحاكم الأساسي والمتحكم في العلاقات بين الدول
تعود النظرية الواقعية بتاريخها إلى آلاف السنين، إذ كانت إرهاصاتها الحقيقية في أيام الإغريق، ولا سيما عندما ظهرت بشكلٍ واضح من خلال كتاب الفيلسوف والمفكر اليوناني ثيو سيديدس "حروب البلوبونيز" (The Peleponnesian War)، إذ يعتبر هذا الكتاب المرجع الأول في العلاقات الدولية الذي يحتوي في ثناياه على العديد من المفاهيم التي ما زالت تستخدم في أيامنا هذه، حيث يتحدث ثيوسيديدس في الكتاب قائلاً:
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
"إن الأسباب الحقيقية للحرب بين أثينا وإسبارطا هو تعاظم قوة أثينا والخوف الذي زرعه هذا التعاظم لدى إسبارطا"
بذلك يشير ثيوسيدديدس إلى الأسباب الحقيقية للحرب بين المدينتين (الدولتين)، والسبب الحقيقي هو تعاظم قوة أثينا وخوف إسبارطا على أمنها، بالتالي جاءت الحرب بمثابة ضربة وقائية قامت بها إسبارطا لتحمي مستقبلها أي أن الخلل في ميزان القوى أدى إلى الحرب بين الدولتين، ويضّمن ثيوسيديدس كتابه ما تم خلال المفاوضات بين الدولتين، إذ كان قادة أثينا يقولون:
"إن نتائج الحرب تُفرض على الخاسر، ونحن الأقوياء نستطيع أن نفعل ما نريد ونحصل على ما نرغب وما على الضعيف إلا أن يقبل"
وفي هذا الكلام الذي يسوقه ثيوسديدس ضمن كتابه يلخص به بشكل بسيط مفهوم النظرية الواقعية، إذ يقول: "إن العلاقات بين الدول هي علاقات تنافس، والقوي هو الذي يفرض شروطه والضعيف يجب أن يقبل بوضعه وبالظروف المفروضة عليه"، وهذا هو مفهوم النظرية الواقعية بشكله الأساسي والبسيط، إذ تعتبر هذه النظرية أن القوة هي الحاكم الأساسي والمتحكم في العلاقات بين الدول، وأن اختلال توازن القوى هو جرثومة الحرب الأساسية، والدولة القوية هي التي تفرض سياستها وشروطها على غيرها من الدول الأضعف منها.
القوة أهم مفاهيم الواقعية
ليس الاختلاف حول أهمية مفهوم القوة في النظرية الواقعية، إذ أنها أكثر المفاهيم التي يتحدث عنها الواقعيون، عند إسقاط النظرية الواقعية على العلاقات الدولية، بيد أن الاختلاف قائم بين منظري الواقعية حول ماهية القوة وشكلها، فيفرق جوزيف ناي (Joseph Nye) (أستاذ العلوم السياسية وعميد سابق لمدرسة جون كينيدي الحكومية في جامعة هارفارد)، بين نوعين من القوة، القوة القاسية والتي تشمل العوامل التقليدية، كالقوة العسكرية والاقتصادية، والنوع الثاني هو القوة الناعمة وتشمل الجوانب الثقافية كالأعراف والتقاليد والهوية، بالإضافة إلى القدرة الدبلوماسية، بينما النظرة العامة لدى الكثير من منظري العلاقات الدولية، هي أن القوة لا يمكن النظر إليها إلا نظرة شاملة تأخذ بعين الاعتبار القوة بكل أشكالها المادية وغير المادية.
النظام من حيث الأحادية والتنوع
إن مفهوم النظام يعود في أصله إلى العلوم الطبيعية حيث أخذه الأكاديميون في العلوم الاجتماعية؛ ليشيروا إلى مجموعة من الأجزاء أو الوحدات التي تتفاعل مع بعضها بشكل مستمر ويؤثر كل منها بالآخر، بحيث إذا تغير سلوك أحد هذه القوى يؤثر في طبيعة العلاقات الكلية للوحدات الكلية، أما في العلاقات الدولية وضمن إطار النظرية الواقعية فإن الاختلاف حول بنية النظام الدولي وتأثيره على علاقات الدول (وهو ما يتحدد بتوزيع القوة بين القوى الكبرى)، فإذا كان هناك دولة عظمى وحيدة يسمى النظام أحادي القطبية كما هو الحال بعد الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقطبية النظام الدولي، وإذا كان هناك قطبان للقوة يسمى ثنائي القطبية كما هو الحال إبان الحرب الباردة، وإذا كانت القوة تتوزع في أكثر من دولتين، فإن النظام يصبح متعدد الأقطاب، كما هو الحال إبان الحرب العالمية الأولى.
الجدل بين الواقعيّن هو أن بنية النظام تؤثر بشكل أو بآخر على علاقات الدول، فإذا كان النظام الدولي ثنائي القطبية يسود الاستقرار بين الدول، على عكس إذا كان أحادي القطبية، وهذه رؤية مؤسس الواقعية الجديدة الأمريكي كينث والتز (Kenneth Waltz)، بينما يرى منظرون واقعيون آخرون أن تعدد الأقطاب وليس ثنائية القطبية هي الأساس في استقرار العلاقات بين الدول.
الأمن القومي هدف الفرد والدولة
يعتبر مفهوم الأمن القومي من المفاهيم القديمة، إذ أن الأمن بشكله العام هدفاً يسعى إليه الفرد، وأما مفهوم الأمن القومي فقد كانت تسعى إليه الدول عندما تتحسس الأخطار المحيقة بها ولا سيما عسكرياً، وإن الأمن يمكن تحقيقه بالقوة أو بالسلام وهو ما اختلف حوله منظرو العلاقات الدولية في ربط الأمن القومي بمصدره الحقيقي، وذلك في ثمانينات القرن المنصرم، والاختلاف أيضاً حول مصادر الخطر التي تهدد أمن الدولة القومي هل عسكرية أم غير عسكرية، كما أن الاختلاف قائم حول الهدف الحقيقي للأمن؛ إذ يمكن أن يكون هدف تحقيق الأمن القومي هو تحقيق أمن الإنسان، وهو ما أصبح وسيلةً تستخدمها الدول الكبرى للتدخل بغيرها من الدول بحجة التدخل لحفظ أمن الإنسان، وهو ما حصل ويحصل في دول آسيا وأفريقيا بشكلٍ كبير.
توازن القوى حسب كيسنجر وكينث
يرى أستاذ العلاقات الدولية ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كيسنجر؛ أن توازن القوى يحدث بسبب تصرفات القادة في السياسة الخارجية، فهو لا يحدث بشكل أوتوماتيكي كما يعتقد البعض، فصناع القرار بحسب هنري "ليسوا رهينة توازن القوى بل هم من يصنعوه"، بينما يرى السياسي الأمريكي كينث ولتز أن "الدول تتأثر بتوازن القوى وأن صانع القرار محكوم بخيارات مفروضة عليه بسبب توازن القوى".
الاتجاهات الفكرية في النظرية الواقعية
تقسم النظرية الواقعية من حيث الاتجاهات الفكرية القائمة فيها إلى قسمين، واقعية هجومية ودفاعية، كالتالي:
الواقعية الهجومية
تقوم النظرية الواقعية الهجومية على عدة أسس وافتراضات، أهمها:
- القوى العظمى هي اللاعب الأساسي في السياسة الدولية والنظام الدولي الذي تغيب عنه السلطة المركزية.
- جميع الدول لديها بعض القدرات الهجومية.
- الدول تكون دائماً غير متأكدة من نوايا الدول الأخرى.
- الهدف الأساسي للدول هو البقاء.
وتصور الواقعية الهجومية القوى العظمى بأنها؛ تسعى دائماً إلى زيادة قوتها وهدفها التغير الدائم والبقاء في المركز الأول، وإن طبيعة النظام الدولي تجعل الدول تتصرف بشكل عدواني وهجومي، هذا يعني أن الدول تسعى لزيادة قوتها بغض النظر عن شعورها بالأمن أم لا، لأنها لا تثق بالدول الأخرى وهدفها أن تبقى الأفضل بين الجميع.
الواقعية الدفاعية
تختلف عن الواقعية الهجومية في أن الدول تزيد قوتها لعدم شعورها بالأمن وعدم ثقتها بغيرها من الدول، بينما يرى رواد الواقعية الهجومية ومنهم؛ أستاذ العلاقات الدولية البروفسور ستيفن ولت (Stephen Walt)، أن "الدول تسعى لزيادة قوتها للحفاظ على أمنها القومي" (بمفهوم دفاعي وليس هجومي)، فإذا تحالفت مع الدول الأخرى ووصلت إلى درجة من توازن القوى اكتفت وأصبحت مرتاحة لما يخص أمنها، فالدفاع هو السلوك الأساسي للدول، كذلك يرى رواد الواقعية الدفاعية أن "العوامل الداخلية للدول تلعب دوراً في تحديد سياسات الدول"، بينما يرى أتباع الواقعية الهجومية أن "الدولة أشبه بصندوق ليس هناك داعٍ لفتحه والنظر إلى ما فيه".
أهم رواد ومفكري النظرية الواقعية.. ثيوسيديس أول روادها
يعتبر اليوناني ثيوسيدس (Thucydides) _كما أشرنا سابقاً في هذا المقال_ الرائد الأول للتيار الواقعي في العلاقات الدولية، حيث يلخص في كتابه حروب البلوبونيز تاريخ الحروب الطويلة بين إسبارطا وأثينا، والتي دامت لمدة ربع قرن، كما يلخص معاني الخوف والرعب والبطولة والنصر والهزيمة، بذلك أعطى دروساً لصناع القرار والقادة العسكريين في كيفية التصرف في الحروب وقراءة أسبابها وأبعادها، إذ قدم في كتابه (The Peleponnesian War)؛ قراءة للأسباب التي دفعت إلى الحرب بين إسبارطا وأثينا.
كما يوضح الدور الذي لعبه تغير توازن القوى في إشعال فتيل الحرب (وتوازن القوى، حتى لدى رواد الواقعية الجديدة يعتبر من العناصر الرئيسية للنظرية الواقعية)، بالإضافة إلى إشارته إلى الأمن القومي بعيد المدى وراء حدوث الحرب، "فأمن إسبارطا أصبح مهدداً مع تعاظم قوة أثينا"، كما يشير في كتابه.
نيكولا ميكيافيلي وكتاب الأمير
كان الفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولا ميكيافيلي (Niccolò Machiavelli) محباً ومهتماً بالسياسة، حيث تركزت كتاباته حول الأمن القومي وأهميته، كما كتب عن توازن القوى والأحلاف وأسباب الصراع بين الدول، لكن أكثر ما اشتهر له هو كتاب الأمير (The Prince)، وهو كتاب أهداه للأمير الإيطالي وحاكم فلورانس، "لورنزو دي ميتشي"، وفيه لخص نصائحاً للأمير في كيفية الحصول على القوة وكيف يحافظ على تلك القوة، وكيف يوسع نفوذه وقوته (وأصبح كتاب ميكافيلي كمرشد للعديد من القادة العسكريين حول كيفية تثبيت حكمهم.
وحتى في الآونة الأخيرة، فالناظر إلى كيفية وصول الكثير من الحكام إلى السلطة، ولا سيما بعض الحكام العرب، سيرى أن السائد هو مبدأ التفرد بالحكم، بمعنى الوصول إلى السلطة ومن ثم تصفية من ساعده في الوصول، وهو من النصائح التي يسوقها ميكيافيلي في كتاب الأمير)، كما يركز نيقولا ميكيافيلي في كتابه على المصلحة العليا للدولة وهي الأمن القومي، فيجعل كل شيء مباح في سبيل تحقيقها، على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وهو ما أطلق عليه "الميكافيلية".. التي تعتبر طريقة غير أخلاقية في السياسة، بيد أن ميكيافيلي يقول: " لا أخلاق في السياسة"، لذا كل شيء مباح في سبيل حفظ أمن الدولة ومصالحها، وهذه هي أسس النظرية الواقعية.
هانس مورغانثو واضع الأسس العلمية للواقعية
يعتبر أستاذ العلاقات الدولية الأمريكي هانس مورغانثو (Hans Morgentho) أول من وضع الأسس العلمية والمنهجية للنظرية الواقعية، ولا سيما من خلال كتابه "السياسة بين الأمم"، حيث يشير فيه إلى عدة مبادئ للنظرية الواقعية، وأهمها:
- إن القائد السياسي يفكر ويتصرف طبقاً للمصلحة التي هي القوة، ويوضح أن مفهوم المصلحة القومية لا يفترض تناسقاً دولياً ولا سلاماً، كما لا يفترض حتمية الحرب كنتيجة لتحقق الدول مصالحها، إنما تفترض صراعاً مستمراً وتهديداً مستمراً بالحرب يساهم العمل الدبلوماسي في تقليل احتمالاته.
- يوافق مورغانثو على أن معنى "القوة هي المصلحة" معنى غير ثابت، على أية حال فإن عالم تسعى فيه دول ذات سيادة، فإن سياسته الخارجية يجب أن تقوم على أساس أن البقاء هو هدفها الأساسي، وكل دولة مضطرة لحماية كيانها السياسي والثقافي والمادي، إذاً فالمصلحة القومية تعني البقاء وهي ختام المطاف في السياسة.
أخيراً... هناك الكثير من النظريات التي ظهرت لتوضح طبيعة وحقيقة العلاقة بين الدول ومنها كانت النظرية الواقعية، والتي ربما تكون أكثر النظريات انطباقاً على علاقات الدول؛ لا سيما في عالمٍ تحكمه المصالح والقوة، ويسوده التهديد والتنافس.