هيروشيما وناجازاكي أول ضحايا القنبلة النووية
منذ بداية تطور العقل البشري، كان لابتكار السلاح دور كبير في التأثير على حياة الشعوب، حيث انتقل الإنسان من تطوير الأسلحة البيضاء البسيطة، إلى أسلحة أكثر تعقيداً، وفاعلية، وكان الهدف الأول هو الدفاع عن النفس.
لكن هذا الهدف، تغيَّر وتطور، حتى أصبحتْ دول العالم الحديث تتسابق في تطوير الأسلحة النوعية وابتكارها، لتصل البشرية أخيراً، إلى أكثر الأسلحة تدميراً على مر التاريخ.
إنَّه السلاح النووي، الذي غيَّر كثيراً من المفاهيم العسكرية، والسياسية حول العالم، كما أعاد صياغة مفهومي الحرب، والسلام؛ فكانت مدينة هيروشيما، ثم ناجازاكي في اليابان، القربان النووي الأول، والأخير في عالمنا الحديث.
كان الهدف من استخدام القنبلة النووية إجبار اليابان على الاستسلام
اندلعت الحرب العالمية الثانية في الأول من أيلول/سبتمبر عام 1939، بعد أن احتلت ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر (Adolf Hitler) بولونيا، وكانت اليابان في صف دول المحور، إلى جانب ألمانيا، وإيطاليا، ودول أخرى، بمواجهة دول التحالف، التي تشكلت من فرنسا وبريطانيا، ثم أميركا، ودول أخرى، كما انضم الاتحاد السوفيتي إلى صف دول التحالف، بعد غزو الألمان لروسيا عام 1941.
كانت كفة الحرب راجحة لصالح الألمان ودول المحور في البداية، حيث استطاع الجيش الألماني احتلال أجزاء واسعة من أراضي أوروبا، وكادتْ موسكو تسقط في قبضة هتلر، لو أنها لم تصمد حتى الشتاء، حيث لم تكن القوات الألمانية مجهزة للقتال في شتاء روسيا البارد جداً، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تخلت عن حيادها، كما بدأ الاتحاد السوفيتي بالهجوم المرتد، لتسقط برلين في نيسان/أبريل عام 1945، حيث بقيت اليابان وحدها، تقاتل في وجه ما تبقى من جيوش العالم.
أدرك الأمريكيون أن الطريق الأقصر لإخضاع الإمبراطورية اليابانية، هو القوة المفرطة، خاصة أن القوات اليابانية وجهت ضربات موجعة لجيوش الحلفاء، كما أن سقوط برلين كان نهاية الحرب بالنسبة للحلفاء، لكن اليابان لم تستسلم بسهولة، وربما كانت لدى أمريكا رغبة بتجربة السلاح الجديد، وقدرته التدميرية.
إنذار بوتسدام والقنبلة النووية الأولى
بعد سقوط برلين، وانتحار هتلر، شهدت مدينة بوتسدام (Potsdam) الألمانية مؤتمراً ضم قادة دول التحالف في السابع عشر من تموز/يوليو عام 1945، بحضور كل من الرئيس الأمريكي ترومان (Harry S. Truman)، وزعيم الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين (Joseph Stalin)، ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (Winston Churchill)، وخلفه كليمنت اتلي (Clement Attlee).
لينتهي الاجتماع في الثاني من آب/أغسطس من العام نفسه، حيث أصدر قادة التحالف ما يُعرف بإنذار بوتسدام، الذي وضع شروط استسلام اليابان الكامل، تجنباً لتدميرها تماماً، لكن الإنذار لم يتضمن شيء عن القنبلة النووية، التي كانت سراً من أسرار الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف، فرفضته الحكومة اليابانية، في عهد رئيس الوزراء سوزوكي (Zenkō Suzuki).
في صباح السادس من آب/ أغسطس من العام نفسه، حلق سرب طائرات B29، متجهاً من قاعدة جزر تنيان (Tinian Island) الأمريكية غرب المحيط الهادي، من بينها طائرة يقودها الكولونيل بول تيبيتس (Paul Tibbets)، واسمها (Enola Gay) على اسم والدته.
كما كانت محملةً بقنبلةِ (الطفل الصغير Little Boy) النووية، ليتم إلقاؤها فوق مدينة هيروشيما اليابانية عند الساعة الثامنة والربع صباحاً؛ فانفجرت القنبلة بقوةٍ تدميريةٍ تعادل 17كيلو طن من مادة TNT شديدة الانفجار، حيث امتد اللهب بدائرة قطرها أكثر من خمسة كيلومترات، ولم ينجُ شيء من التدمير في دائرة قطرها كيلومتر من مركز الانفجار.
كما خلف الانفجار أكثر من خمس وستين ألف قتيل، وعشرات آلاف الجرحى، والمصابين إصابات خطرة، فضلاً عن الأضرار الكارثية التي خلفتها القنبلة النووية في المدينة.
القنبلة الثانية (الرجل البدين)
لم يكد العالم يستوعب الصدمة، حتى ألقت القاذفات الأمريكية طراز B29 القنبلة الثانية فوق مدينة ناجازاكي اليابانية، في التاسع من آب/أغسطس، أي بعد ثلاثة أيام من انفجار القنبلة الأولى، هذه المرة حملت القنبلة اسم (الرجل البدين Fat Man)، تيمناً بشكلها، أو بونستون تشرشل.
كما خلفتْ القنبلة دماراً كبيراً في المدينة، بقدرة تدميرية بلغتْ حوالي 21 كيلو طن من مادة TNT، أدت لمقتل قرابة أربعين ألف شخص، وجرح الآلاف.
كان هذا الاستخدام الحربي الأول، والأخير للقنبلة النووية، تاركاً في ذاكرة الإنسانية أكثر من مائة وأربعين ألف ضحية، قضوا في ثوانٍ معدودة، إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى، ناهيك عن الآثار الكارثية التي خلفتها الإشعاعات النووية، من إعاقات، وأمراض مزمنة، إضافة إلى التشوهات الولادية.
لكن الانفجار أجبر اليابان على الاستسلام وفق شروط إنذار بوتسدام، بعد ثلاثة أيام من انفجار الرجل البدين، كما غير في وعي الشعب والساسة اليابانيين إلى الأبد، فضلاً عن دوره في إنهاء الحرب العالمية الثانية، وبداية الحرب الباردة.
آثار القنبلة النووية على اليابان
كانت اليابان دولة حرب، تملك جيشاً قوياً، ودموياً في الوقت نفسه، خاضت خلال تاريخها القديم والحديث، حروباً طاحنة، ويكفي أن نتذكر الطيارين الانتحاريين في اليابان، المعروفين بـ (كاميكازي Kamikaze)، لنعرف عقيدة الجيش الياباني العسكرية، حيث هاجم الكاميكازي الأساطيل الحربية الأمريكية، والإنجليزية في المحيط الهادئ، ودمروا سفنها عن طريق الاصطدام بها، لتنفجر الطائرة المحملة بالذخائر والوقود، مع طاقمها الانتحاري، كما أن اليابان رفضت الاستسلام، بعد سقوط كل حلفائها.
لكن اليابان لم تعد كما كانت، حيث رزحتْ تحت الاحتلال الأمريكي، بعد قصفها بالقنابل النووية، منذ عام 1945، حتى العام 1952، كما أنَّ آثار القنبلة الذرية، لم تقتصر على الأضرار البشرية والمادية، التي ألحقتها بسكان المدن المنكوبة، بل تعدتْ ذلك إلى تأثيرات ثقافية كبيرة، أدتْ إلى تغيير كبير في وعي اليابانيين بالحضارة، والإنسانية، لتتحول اليابان من دولة عسكرية، إلى واحدة من أكثر الدول سلمية في العالم.
انتقلت اليابان عام 1947 من الإمبراطورية المطلقة إلى الإمبراطورية الدستورية، حيث أصبحت صلاحيات الإمبراطور محدودة جداً، مع برلمان منتخب، وصلاحيات واسعة لمجلس الوزراء، الذي يُنتخب من قبل البرلمان، كما كان نبذ الحرب، مبدأ أساسياً في الدستور الياباني الجديد.
حيث بدأت الجهود تنصب على تطوير البلاد، من تطوير التعليم، والصناعة، والتجارة، حتى أصبحت اليابان خلال فترة قصيرة نسبياً، لا تتجاوز العشرين عاماً، من أكثر دول العالم تطوراً، تشتهر بمنظومتها الأخلاقية المتميزة، ومؤسساتها التعليمية، والإدارية النزيهة، إضافة إلى صناعاتها المتميزة، في المجالات التقنية خاصة، وفي عدة مجالات أخرى.
حيث يعتبر الكثير من الباحثين، أن الكارثة النووية التي تعرضت لها اليابان، هي التي كشفت طريق التقدم والازدهار لليابانيين، كذلك اتجه اليابانيون إلى الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، حيث تعتمد اليابان بشكل كبير على المفاعلات النووية، في توليد الطاقة، ومن أشهرها مفاعل فوكشيما، الذي توقف عن الخدمة بعد زلزال اليابان الكبير (توهوكو) في آذار/مارس عام 2011، حيث أدى الزلزال إلى تسربات إشعاعية، وأضرار في المفاعل.
آثار القنبلة النووية على العالم
بالدرجة الأولى، كان للقنبلة الذرية دورٌ أساسي في إنهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كان من الممكن أن تستمر لفترة غير محددة، لو لم تستلم اليابان أخيراً، لتنتهي الحرب رسمياً، في أيلول عام 1945،ثم تبدأ القسمة بين المنتصرين، بين أميركا والسوفييت بشكل أساسي.
حيث بدأ التحالف الذي أنهى الحرب، يتحول إلى عداءٍ واضح، كاد يصل إلى صدام عسكري بين أكبر جيشين في العالم، لولا أن الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، أعلن امتلاك بلاده للقنبلة الذرية، وأجريت أول تجربة لها في آب/أغسطس عام 1949، في الصحراء سيبيريا، في كازاخستان، لتبدأ مرحلة الحرب الباردة، التي استمرت حتى انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، لكنها وفق المتابعين، عادت للظهور مجدداً في الأعوام الأخيرة.
بغض النظر عن المنتصر في الحرب الباردة، إلا أن الثابت أن امتلاك روسيا للسلاح النووي، جعل من استخدامه أمراً شبه مستحيل، حيث لم يعد من الممكن الدخول في حرب لانتزاع السيادة على العالم، بل ستكون حروباً بالنيابة، وأزمات دبلوماسية، حيث يرى الكثيرون أن السلاح النووي لن يستخدم ثانيةً، وإلا ستكون نهاية البشرية.
متحف هيروشيما لذكرى السلام
افتتحت اليابان متحفاً تحت اسم (متحف هيروشيما لذكرى السلام Hiroshima Peace Memorial Museum) عام 1954، حيث ضم المتحف بعض أغراض الضحايا، مثل بقايا الثياب، والساعات، والشعر...إلخ، ومنها ساعة اليد المشهورة، المتوقفة عند الساعة الثامنة والربع، وقت إلقاء القنبلة.
كما تم تجديد المتحف عام 1994، ليضم قسماً جديداً، يشرح تاريخ المدينة قبل القنبلة النووية وأثناء الحرب العالمية الثانية، كما تم إدخال تقنيات حديثة، تحاكي ما تعرض له الناس نتيجة الانفجار، إضافة إلى انصهار المواد، مثل الحديد والخشب، وتقام في المتحف ندوات حول السلام الدولي، ونبذ الحروب، علماً أن الإعلامي السعودي أحمد الشقيري، قدم المتحف إلى المشاهد العربي من خلال برنامجه خواطر في جزئه الخامس.
ختاماً... تعتبر القنبلة النووية من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير، كما ينظر إليها أنها أنجح محاولة قام بها الإنسان لتدمير العالم، ويبقى السؤال، إن كان من الممكن أن يتم استخدام السلاح النووي ثانية؟ أم أن هيروشيما، وناجازاكي، آخر ضحايا القنابل الذرية؟!.