العدوان الثلاثي على مصر
ربما لم يكن الرئيس المصري جمال عبد الناصر يدري أن قراره "تأميم قناة السويس" سيؤدي لشن حرب على بلده، لكن الأكيد أن هذه الحرب أثبتت قدرة المصريين على الدفاع عن أنفسهم ضد أي عدوان.
قناة السويس من التأسيس إلى التأميم
تعود فكرة إنشاء قناة السويس لربط البحر الأحمر بالمتوسط إلى الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت إثر حملته على مصر وبلاد الشام بين عامي 1798- 1801، لكن هذه الفكرة لم تدخل حيز التنفيذ حتى عام 1854 على يد المهندس الفرنسي فرديناند دو لسبيس الذي قدم المشروع للخديوي المصري سعيد، ووافق عليه، لتفتتح القناة رسمياً في عام 1869 بحفل ضخم دعا إليه الخديوي إسماعيل كل زعماء العالم، حيث كانت حصة مصر من عائدات القناة 44% وحصة فرنسا 56% على اعتبار أن فرنسا هي صاحبة المشروع.
إلا أنه في عام 1875 اضطر الخديوي إسماعيل لبيع حصة مصر من القناة لبريطانيا لتسديد ديون بلاده، كما أنه بعد احتلال بريطانيا لمصر عام 1882 أصبحت القناة تحت السيطرة البريطانية الكاملة بعد شرائها حصة فرنسا، حيث تحوّلت القناة لأهم معبر مائي في العالم تمر من خلاله ناقلات النفط والسفن التجارية من آسيا إلى أوروبا.
وفي عام 1936 وقعت الحكومة المصرية مع الحكومة البريطانية اتفاقية لتأجير القناة لبريطانيا مدة عشرين عاماً، وفي عام 1951 ألغت الحكومة المصرية هذه الاتفاقية من جانب واحد نتيجة الامتعاض من وجود عدد كبير من القوات البريطانية في منطقة القناة الأمر الذي حوّلها لقاعدة عسكرية كبرى لها، لكن بريطانيا رفضت الانسحاب من القناة واعتبرت الاتفاقية مع مصر ما تزال سارية المفعول.
استمر الوضع على ما هو عليه حتى اندلاع ثورة الثالث والعشرين من شهر تموز/يوليو عام 1953 ووصول جمال عبد الناصر إلى السلطة في مصر بعد القضاء على النظ��م الملكي، وفي عام 1954 جلت القوات البريطانية عن مصر لكنها بقيت مسيطرة على عائدات قناة السويس، وفي التاسع عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1954 وقعت بريطانيا مع مصر اتفاقية تنازلت بموجبها عن قناة السويس لمصر على أن تسحب قواتها من القناة بحلول شهر حزيران/يونيو عام 1956، ويبقى فيها بعض المبعوثين.
ونتيجة الشروط التعجيزية التي فرضها البنك الدولي على مصر لتمويل بناء السد العالي عام 1956 ثم رفضه تقديم القرض، وكذلك سحب الولايات المتحدة الأمريكية لعرضها؛ قررت مصر تأميم قناة السويس في السادس والعشرين من شهر تموز/يوليو عام 1956 لبناء السد العالي من عائدات القناة، وذلك بعد تعويض المساهمين البريطانيين عن خسائرهم من التأميم، لكن هذا التأميم لم يمر مرور الكرام بل شكل شرارة لبدء عدوان ثلاثي بريطاني فرنسي إسرائيلي على مصر في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1956.
تعددت الأسباب والنتيجة واحدة عدوان ثلاثي على مصر
كل دولة من الدول الثلاثة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل كان لديها أسبابها للمشاركة في هذا العدوان.
- فرنسا: كانت ممتعضة من دعم مصر للثورة الجزائرية الكبرى التي تقاتل القوات الفرنسية المحتلة للجزائر بالمال والسلاح والمدربين، فأرادت بهذا الغزو إضعاف مصر ومنعها من تمويل الثورة الجزائرية الكبرى التي انطلقت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1954.
- بريطانيا: شعرت بحجم الضرر التي أصابها من قرار الرئيس المصري تأميم قناة السويس التي بقيت تستثمرها منذ احتلالها مصر عام 1881 وحتى تاريخ التأميم في السادس والعشرين من شهر تموز/يوليو عام 1956، حيث أرادت بريطانيا دفع المصريين للتراجع عن قرار التأميم وعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل التأميم، إضافة لقيام حركة الضباط الأردنيين بطرد الجنرال البريطاني غلوب باشا الذي تسلم قيادة القوات المسلحة الأردنية لعقودٍ من الزمن، وهو ما اعتبرته بريطانيا خطوة لتقليص نفوذها من قبل الأردن وورائها مصر وذلك لارتباط حركة الضباط الأحرار الأردنية بحركة الضباط الأحرار المصرية التي استلمت السلطة في مصر بزعامة جمال عبد الناصر.
- إسرائيل: اعتبرت توقيع مصر اتفاقية مع الاتحاد السوفيتي لتزويد الجيش المصري بأسلحة متقدمة ومتطورة تهديداً لها، كما رأت في العدوان فرصة لتحقيق حلمها الذي يقول: (حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل).
التخطيط الفرنسي البريطاني الإسرائيلي للعدوان
وضعت خطة العدوان الثلاثي في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1956 في فيلا خاصة بمدينة سيفر في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، حيث اجتمع ممثلون عن بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ثم وقع المجتمعون وهم (مساعد وكيل وزارة الخارجية البريطاني باتريك دين، وزير الخارجية الفرنسي كريستيان بينو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون) في نهاية الاجتماع الذي استمر لثلاث ساعات بروتوكول سيفر، الذي تضمن الخطة الدقيقة لمهاجمة مصر، وهذا ملخصها:
(تبدأ إسرائيل بمهاجمة الجيش المصري بالقرب من قناة السويس، وهذا الهجوم سيكون بمثابة ذريعة للتدخل العسكري البريطاني الفرنسي).
طبعاً رفضت بريطانيا وفرنسا الاعتراف بهذه الوثيقة بعد العدوان (لتظهر للعالم أن تدخلها في الحرب كان بسبب رفض مصر وإسرائيل وقف إطلاق النار)، حيث اختفت النسختين البريطانية والفرنسية وبقيت النسخة الإسرائيلية سرية ضمن محفوظات بن غوريون أفرج عنها عام 1996حيث أعطيت للتصوير لصالح فيلم وثائقي أعدته BBC البريطانية بمناسبة الذكرى الأربعين لحرب السويس.
أحداث العدوان الثلاثي
بدأت إسرائيل تنفيذ الخطة المتفق عليها مع بريطانيا وفرنسا، بالهجوم البري على مصر في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1956، فقامت بريطانيا وفرنسا بتوجيه إنذار لإسرائيل ومصر بوقف القتال على أن تتواجد قوات بريطانية فرنسية على جانبي قناة السويس، لكن مصر رفضت الإنذار، فقامت بريطانيا وفرنسا في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1957 بمهاجمة منطقة القناة في محاولة لتطويق الجيش المصري في سيناء فقام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بإخلاء سيناء فاحتلها الجيش الإسرائيلي على الفور، وانتقلت المعركة إلى بور سعيد حيث قامت الطائرات البريطانية والفرنسية بقصف مدينة بورسعيد ومن ثم أنزلت بريطانيا قواتها في مطار الجميل غرب المدينة، كما أنزلت فرنسا قواتها منطقة الرسوة جنوب بورسعيد.
لتبدأ بعدها المعركة البرية بين القوات الفرنسية والبريطانية من جهة والجيش المصري مدعوماً بالشعب، ولأن موازين القوى لم تكن في صالح المصريين تمكن الغزاة من احتلال بورسعيد في السادس من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1957، وفي اليوم التالي تقدّمت القوات الفرنسية البريطانية مسافة خمسة وثلاثين كيلو متراً على امتداد قناة السويس، فهدد رئيس الاتحاد السوفيتي خروتشوف بقصف لندن وباريس إذا لم يتوقف العدوان، كما ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية على كل من بريطانيا وفرنسا لوقف العدوان تحت طائلة فرض العقوبات الاقتصادية، فأصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بوقف العدوان يبدأ تطبيقه في السابع من شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 1956، حيث قبلت بريطانيا وفرنسا القرار الأممي وسحبت قواتها من بور سعيد المصرية في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر عام 1956 حيث تحول هذا اليوم إلى عيد يحييه أهالي بورسعيد والمصريين عموماً تحت مسمى (ذكرى انسحاب القوات البريطانية والفرنسية عن بور سعيد) أو (عيد النصر).
لكن إسرائيل لم تنسحب من سيناء إلا في الثاني عشر من شهر آذار/مارس عام 1957 بعد ضغوط أمريكية وتلميحات بفرض عقوبات دولية عليها فأعلنت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنها ستسحب قواتها من سيناء، ووضعت الأمم المتحدة بعد موافقة مصر قوات طوارئ دولية على الحدود الفاصلة بين مصر وإسرائيل، في منطقة شرم الشيخ المطلة على خليج العقبة بقيت هناك حتى طلبت منها مصر المغادرة في السابع عشر من شهر أيار/مايو عام 1967.
نتائج العدوان الثلاثي
أهم نتيجة كانت فشل العدوان الثلاثي واضطرار الدول الثلاثة المعتدية لسحب قواتها من المناطق التي احتلتها من مصر، كما أغلقت قناة السويس خلال فترة العدوان بين التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1956 وشهر آذار/مارس عام 1957 مما أثر سلباً على التجارة العالمية ولاسيما لبريطانيا وفرنسا التي لم تكن تتوقع أن تخسر الحرب، ومن النتائج الأخرى:
- خسارة فرنسا وبريطانيا لدورهما كقوتين عظميين في العالم، حيث كان هذا العدوان آخر ما قامت بهما كقوتين عظميين واضطرارهما للانسحاب بضغط أمريكي سوفييتي أثبت ذلك.
- استقالة رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن في عام 1957.
- انتعاش العرب والمصريين بدحر العدوان ولاسيما إسرائيل حيث اعتبر بمثابة رد اعتبار على نكبة فلسطين في الخامس عشر من أيار/مايو عام 1948.
- ازدياد شعبية الرئيس المصري جمال عبد الناصر في مصر والدول العربية نتيجة انتصاره على دول العدوان.
العدوان الثلاثي في الفن المصري
حظي العدوان الثلاثي على مصر باهتمام في الوسط الفني المصري ونذكر من أهم الإنتاجات ما يلي:
تأثر الانتاج السينمائي بالعدوان الثلاثي
أنتجت السينما المصرية فيلمين عن العدوان:
- بورسعيد، تحدث عن مصر منذ تأميم قناة السويس حتى بداية العدوان الثلاثي، عرض في الثامن من شهر تموز/يوليو عام 1957، مدته مئة وثلاثين دقيقة، من إخراج عز الدين ذو الفقار ، وإنتاج شركة العهد الجديد التي يملكها الفنان المصري فريد شوقي، شارك في الفيلم الفنانون: فريد شوقي، هدى سلطان، ليلى فوزي، شكري سرحان، زهرة العلا، أمينة رزق، حسين رياض، زينب صدقي، رشدي أباظة، توفيق الدقن، عدلي كاسب، نعيمة وصفي، نور الدمرداش، سراج منير، أحمد مظهر.
- فيلم ناصر 56، تحدث عن العدوان الثلاثي على مصر، عرض في عام 1996، مدته مئة وخمس وأربعون دقيقة، وهو من بطولة الفنان المصري الراحل أحمد زكي إضافة للعديد من الفنانين المصريين مثل: فردوس عبد الحميد، أحمد ماهر، شعبان حسين، ناصر سيف. الفيلم من تأليف محفوظ عبد الرحمن، وإخراج محمد فاضل.
في مجال الغناء
غنى الفنانون المصريون العديد من الأغاني بمناسبة العدوان الثلاثي:
- عبد الحليم حافظ، غنّى عبد الحليم أغنية حكاية شعب أو السد العالي، تجسد كفاح المصريين منذ الاستعمار البريطاني حتى العدوان الثلاثي، من كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل، وألحان الموسيقار كمال الطويل.
- فائدة كامل، غنّت قصيدة (دع سمائي.. فسمائي محرقة دع قناتي.. فقناتي مغرقة) من أشعار كمال عبد الحليم، وألحان الموسيقار علي إسماعيل.
- أم كلثوم، غنّت أغنية (هي مصر التي في خاطري وفي فمي) من أشعار أحمد رامي، وألحان الموسيقار رياض السنباطي.
في الختام.. (لكل شيء ثمن في هذه الحياة) دفع المصريون أرواح العشرات من أبنائهم نتيجة قرار التأميم لكنها ربحت عائدات أهم ممر مائي في العالم، في المقابل خسرت بريطانيا وفرنسا مكانتهما كقوتين عظميين في العالم، وتعرضت إسرائيل لانتكاسة بعد نشوتها بنصر الخامس عشر من شهر أيار/مايو عام 1948 الذي شكل نكبة للفلسطينيين والعرب، ولكن يبقى الرهان.. على أن السيادة لأصحاب الأرض ستبقى ما دام أصحابها مستعدين للدفاع عنها مهما كان الثمن.