جدار الفصل العنصري في فلسطين
بدأت دولة الاحتلال الإسرائيلي سياساتها التوسعية منذ اليوم الأول لقيامها بعد نكبة عام 1948، ثم بدأت بتطوير هذه السياسات وفق الأوضاع الراهنة، ساعية إلى ابتلاع أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية، وطمس معالم المدن والقرى العربية، فاستغلت إسرائيل اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، لتبدأ ببناء جدار الفصل العنصري حول الضفة الغربية، لكن ما هو مسار هذا الجدار؟ وما هي مراحل بنائه؟ وكيف أثر على حياة الفلسطينيين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال.
يعتبر جدار الفصل العنصري استكمالاً لسياسات الحركة الصهيونية
بدأت الحركة الصهيونية بالسعي لتفريغ فلسطين من أهلها، منذ الإعلان عن نشاطها العلني نهاية القرن التاسع عشر، حيث أرست الحركة الصهيونية مجموعة من القواعد والسياسات بالتواطؤ مع الدول العظمى في العالم، لتقوم بواحدة من أكبر عمليات التغيير الديموغرافي في التاريخ، عبر تشجيع وتمويل هجرة اليهود إلى فلسطين، على مدى نصف قرن تقريباً، خاصةً بعد وعد بلفور الشهير، حتى شكل اليهود في فلسطين مجموعة من الميلشيات العنصرية المسلحة، التي استطاعت هزيمة العرب، وإقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تقوم على مبدأ (إسرائيل دولة لكل اليهود).
ومن هنا تبدأ العنصرية الإسرائيلية، لكن الخليط القومي الذي أنشأته الصهيونية، على اعتبارات الانتماء الديني، لم يعفها من نشوء الحركات القومية داخل بدنها، لتكون دولة الاحتلال مكونة من فئات قومية عنصرية، بصبغة دينية عنصرية، تسعى جاهدةً للتخلص من الشعب الفلسطيني تماماً، وتهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين.
وقد اتبع الاحتلال مختلف أشكال القوة في ذلك، ابتداءً بالقوة الناعمة، مروراً بالقوة العسكرية المفرطة، وليس انتهاءً بتهديد لقمة عيش الفلسطينيين، كما أنَّ فكرة الجدار تعود إلى ما قبل إعلان الاحتلال، حيث تم تداول الفكرة عدة مرات خلال ثلاثينيات القرن الماضي، كما قامت دولة الاحتلال ببناء سور عازل حول غزَّة بعد الانتفاضة الأولى عام 1987.
بداية بناء جدار الفصل العنصري
انتفض الفلسطينيون عام 1987، واستمرت انتفاضتهم المعروفة بانتفاضة الحجارة حوالي ست سنوات، وضعت الاحتلال الإسرائيلي أمام معطيات جديدة، أجبرته على الاعتراف بجزء من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه من جهة، وألهمته التخطيط لتجنب قيام دولة فلسطينية قوية في الضفة الغربية وقطاع غزَّة (دولة فلسطين بموجب اتفاق أوسلو عام 1993)، فامتنعت دولة الاحتلال عن تنفيذ بنود الاتفاقية بحذافيرها.
كما أُرجئت القضايا الجوهرية إلى مفاوضات لاحقة، كنوع من المماطلة بتحديد مصير القدس، واللاجئين الفلسطينيين في الشتات، كما أنها لم ترفع اليد العسكرية عن الضفة والقطاع، ما أدى في النهاية إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، والتي نتجت عن دخول أرييل شارون باحة المسجد الأقصى.
حزيران/يونيو مجدداً يشهد على انتهاكات العدو الإسرائيلي
في شهر حزيران/يونيو عام 2002، أعلن رئيس حكومة الاحتلال أرييل شارون عن البدء بتنفيذ خطة (الجدار الأمني) التي طرحت لأول مرة للتنفيذ في عهد إيهود بارك عام 2000، على الرغم من أنها تعود للسبعينيات، وكان الهدف المعلن لبناء الجدار هو (التخلص من خطر الانتحاريين الفلسطينيين) حسب تعبير الاحتلال، حيث شهدت الانتفاضة الثانية، تصاعداً كبيراً في سوية العمليات الفدائية والعسكرية داخل الأراضي المحتلة.
فقررت دولة الاحتلال أن ترفع حاجزاً بينها وبين الفلسطينيين أصحاب الأرض، اتقاءً للعمليات التي تنفذها الفصائل الفلسطينية في خارج حدود الخط الأخضر (حدود عام 1967)، أي داخل الحدود الإسرائيلية التي رُسمت عام 1948، كما لم يعلن الإسرائيليون عن أية أهداف أخرى للجدار، باستثناء الأهداف الأمنية، حيث صرحوا أن الجدار لن يكون حدوداً سياسية في المستقبل، تطميناً لليهود الذين يطمحون بإعادة السيطرة على كامل الأراضي الفلسطينية، وتطميناً للعرب الذين يطمحون بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967.
تم بناء جدار الفصل العنصري على ثلاث مراحل
كانت فكرة بناء جدار عازل بين الفلسطينيين في الضفة والقطاع والاحتلال الإسرائيلي، فكرةً مطروحة دائماً، لكن الاحتلال كان ينتظر الوقت المناسب للبدء بتنفيذ هذه الخطة، علماً أنَّ الاحتلال كان قد بنى جداراً حول غزّة قبل ذلك، لكن لم يكن من الإسمنت المسلح، بل من الأسلاك الشائكة، أما الجدار الذي نتحدث عنه، فقد تم بناؤه على ثلاث مراحل (أ،ب،ج)، ابتداء من حزيران/يونيو عام2002، حيث يصل طول الجدار على مدى المراحل الثلاث إلى (600 كيلومتر)، على الرغم من أنَّ الحدود بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948 لا تتجاوز (360 كيلو متر).
لكن استدارات الجدار حول القرى والمدن الفلسطينية لفصلها عن بعضها، وانحناءاته لابتلاع مزيد من أراضي الضفة؛ جعل طول الجدار ضعف طول الحدود!، كما تم الإعلان عن مرحلة إضافية في وقت لاحق، ليبلغ طوله حوالي (730 كيلومتر).
التخطيط العام لجدار الفصل العنصري
يصل ارتفاع الجدار إلى ثمانية أمتار، بعرض يتراوح بين 60 متراً و 150 متراً، يوجد في بعض أجزائه جدار كهربائي، وأسلاك شائكة، كما تحاذي الجدار طرقات معبدة لتسيير الدوريات، فضلاً عن طرقات رملية لتعقب آثار الأقدام، إضافة إلى أبراج المراقبة المزودة بأجهزة الاستشعار، وكاميرات المراقبة، كما تم تشييد جدار ثانوي في عمق الجدار الأساسي، تنحصر بينهما "المنطقة العازلة"، وقد رصدت حكومة الاحتلال مبلغاً يفوق الخمسة مليارات دولاراً أمريكياًً لبناء الجدار.
المرحلة الأولى لبناء جدار الفصل العنصري (المرحلة أ)
في آذار/مارس عام 2002، توغل جيش الاحتلال الإسرائيلي على طول الخط الأخضر (حدود عام 1967)، ضمن عملية عسكرية واسعة أطلق عليها اسم (السور الواقي)، والتي تضمنت مصادرة مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، وطرد السكان الفلسطينيين من بعض القرى، لتبدأ المرحلة الأولى من تنفيذ مشروع الجدار العازل في الثالث والعشرين من شهر حزيران/يونيو من العام نفسه، والتي بدأت عند قرية سالم في قضاء جنين شمال الضفة الغربية، وحتى قرية مسحة في منطقة سفليت، بطول (145 كم)، يضاف إليها الأراضي المحيطة بالقدس، من الشمال والجنوب، ما عرف بـ (غلاف القدس)، كما يحاصر الجدار قلقيلية بشكل كامل.
المرحلة الثانية لبناء جدار الفصل العنصري (المرحلة ب)
تم إقرارها عام 2003، تتكون من عدة امتدادات للجدار ، من (مستوطنة القانا) في محافظة سفليت، إلى معسكر عوفر جنوب رام الله، بعمق (22 كم) داخل الخط الأخضر، وبطول (186 كم)، إضافة إلى امتداد من قرية سالم حتى تياسير عند غور الأردن بطول (60 كم)، كذلك من مستوطنة هارغيلو إلى مستوطنة الكرمل جنوب الخليل بطول (144 كم).
المرحلة الثالثة لبناء جدار الفصل العنصري (المرحلة ج) والمرحلة الإضافية
أُقرت هذه المرحلة أيضاً عام 2003، لتنفيذ الجزء الشرقي من الجدار المحاذي لغور الأردن، على طول الخط الأخضر، من داخل الضفة الغربية، بموازاة الجدار الغربي، حتى البحر الميت، بطول (196 كم)، كما تم من خلال المرحلة الإضافية عزل القدس بشكل كامل عن الضفة الغربية، من خلال تطويقها بالإسمنت، إضافة إلى عزل مدن طولكرم وقلقيلية عن المحيط الطبيعي لها، حيث بلغ طول الجدار حوالي 728 كيلومتراً، بحسب المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان/ منظمة التحرير الفلسطينية، محاط على طوله بالخنادق، وطرقات تسيير الدوريات، إضافة إلى أبراج المراقبة، وانتهى بناؤه عام 2009.
تأثير الجدار على السكان الفلسطينيين
يمثل جدار الفصل العنصري التجسيد الأكثر وضوحاً لمحاولات التصفية العرقية التي يقوم بها الاحتلال، إلى جانب الحفريات تحت المسجد الأقصى، حيث نتجت عن الجدار آثار كارثية على الشعب الفلسطيني، منها ما هو مباشر يطال لقمة العيش والحياة اليومية، ومنها ما يتعلق بالبيئة والزراعة، وأخطرها ما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني.
الجيوب الفلسطينية على جانبي الجدار
أدى الجدار إلى ما عرف بـ (الجيوب الفلسطينية)، وهي التجمعات السكانية الفلسطينية التي أصبحت خارج الضفة الغربية نتيجة ابتلاع الجدار لهذه الأراضي، وضمها للأراضي المحتلة غرب الجدار، إضافة إلى الجيوب داخل الضفة شرق الجدار.
والجيوب الغربية هي:
- الجيب الأول غرب جنين، يشمل برطعة الشرقية، أم ريحان، خربة عبدالله يونس، إضافة إلى خربة الشيخ سعد، وخربة ظهر الملح، وعدد سكان هذا الجيب حوالي 4100 نسمة.
- الجيب الثاني شرق قرية باقة الغربية، وفيه قرى نزلة عيسى، باقة الشرقية، نزلة أبو نار، حيث يبلغ عدد السكان في هذا الجيب قرابة 6200 نسمة.
- الجيب الثالث، جنوب طولكرم فيه 300 نسمة.
- الجيب الرابع جنوب قلقيلية، يضم رأس الطيرة، خربة الضبع، عرب الرماضين، مجموع سكانه حوالي 700 نسمة.
- الجيب الخامس، يشمل الحي الشرقي من بيت لحم قرب قبة راحيل، وفيه حوالي 400 نسمة.
أما الجيوب الشرقية فهي:
الأماكن المحاصرة بالجدار داخل الضفة الغربية، حيث يفصل الجدار هذه المناطق عن محيطها بشكل كامل، وهذه الجيوب هي:
- جيب جنين، يتضمن مناطق رمانة، الطيبة، إضافة إلى عانين، ويقطن هذه المناطق أكثر من 8400 نسمة.
- الجيب الثاني، هو الجيب الأكبر، يضم كلًّ من؛ شويكة، طولكرم، مخيم طولكرم، إضافة إلى عكتبة، ذنابة، مخيم نور شمس، كذلك خربة التايه، كفا، عزبة الشفا، فرعون، ويقطن هذا الجيب أكثر من 73900 نسمة.
- أما الجيب الثالث، فهو الجيب المحيط بقلقيلية التي تتسع لأكثر من 38200 نسمة، حيث يحاصرها الجدار بشكل كامل.
- الجيب الرابع جنوب قلقيلية، يتضمن هذا الجيب حبلة، رأس عطية، عزبة، يقطنه حوالي سبعة آلاف نسمة.
- الجيب الخامس، يقع على بعد كيلومترات قليلة من الجنوب، ويشمل عزون العتمة، حيث يتسع لأكثر من 1500 نسمة.
هذه الجيوب، تشكل مأساة إنسانية لسكانها، فهي مفصولة عن محيطها بشكل كامل، والتنقل منها إلى خارجها أمر معقد، يحتاج إلى تصريحات خاصة من الاحتلال، فضلاً عن المضايقات التي يتعرض لها المواطنون الفلسطينيون على المعابر.
الآثار الأخرى للجدار
- القضاء على الخط الأخضر، ومسح حدود العام 1967، أي اجهاض اتفاقية أوسلو وكل ما تفرع عنها، والقضاء تماماً على حل الدولتين الذي تجنح له الدول العظمى، والسلطة الفلسطينية.
- ضم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى حدود دولة الاحتلال، وابتلاع مئات الكيلومترات من مساحة الضفة الغربية داخل الخط الأخضر، ذلك طبعاً بمصادرة أراضي الفلسطينيين، خاصة الخصبة منها.
- تهديد الثروة الحيوانية والزراعية، حيث يشكل الجدار حاجزاً بين المزارعين وأراضيهم الزراعية، فضلاً عن تهديد الغزال البري الفلسطيني بالانقراض، نتيجة تضييق مساحات الأرض، وتعرضه للصيد الجائر.
- يلتف الجدار في بعض أجزائه ليحيط بالمدن الفلسطينية، كما في القدس وطولكرم وغيرها، حيث يعزل الجدار هذه المدن بشكل كامل عن محيطها الفلسطيني.
- اقتلع الاحتلال أكثر من مائة ألف شجرة زيتون أثناء إقامة الجدار، ما أثر بشكل مباشر على أحد أبرز المحاصيل الزراعية الفلسطينية.
- صادر الاحتلال أكثر من خمسين بئراً ضمها إلى الأراضي المحتلة غرب الجدار، فضلاً عن محاصرة مصادر المياه من جهة نهر الأردن.
- إن مصادرة الأراضي الزراعية، وهدم المنازل، إضافة إلى السيطرة على مصادر الماء الأساسية، أدى بالضرورة إلى أزمات اجتماعية عدة، أولها ارتفاع نسبة البطالة، كما تواجه المدن والقرى المعزولة، صعوبات في التعليم، والطبابة، فضلاً عن اكتظاظ سكاني في بعض المناطق، يهدد النمو الطبيعي للسكان.
قام العديد من الفنانين الفلسطينيين والعالميين بتحويل الجدار إلى لوحة فنية موضوعها الحرية
منذ الإعلان عن البدء بتنفيذ مشروع الجدار، ارتفعت أصوات معارضة لهذه الخطوة العنصرية والإجرامية بحق الشعب الفلسطيني، كما كانت هذه الأصوات من داخل فلسطين وخارجها، لكن من أبرز أشكال الاحتجاج على بناء الجدار، كانت اللوحات التي رسمها فنانون فلسطينيون وعالميون، على المقاطع الإسمنتية الضخمة التي فرقت الفلسطينيين وسلبت أراضيهم، نستعرض بعضاً منها:
ختاماً... يقف العالم الآن متفرجاً، فيما يبتلع الاحتلال الأراضي الفلسطينية يوماً بعد يوم، وينفذ مخططاته التي وضعها منذ أكثر من خمسين عاماً، دون أن يتمكن أحد من إيقافه، لكن لا بد أن يكون لهذا الإجرام نهاية، ستأتي مع انتفاضة فلسطينية جديدة.