حروب البيلوبونيز ربع قرنٍ من الصراع بين أثينا وإسبرطة

  • بواسطة: بابونج تاريخ النشر: الأحد، 24 نوفمبر 2019 | آخر تحديث: الأحد، 06 فبراير 2022
مقالات ذات صلة
الحروب الكيماوية.. الأسلحة المستخدمة بها ستثير دهشتك
مشهد مروع من السيول الجارفة التي اجتاحت العاصمة اليونانية أثينا
وفاة إيان جيلدر بطل مسلسل صراع العروش بعد صراع مع السرطان

لم تكن حروب البيلوبونيز إحدى ملاحم شاعر الإغريق هوميروس صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسة، إنما كانت صراعاً حقيقياً عاشه الأثينيون والإسبارطيون واستمرّ قرابة الربع قرن، فأرخ ثيوسيدس أحداثه وهو في المنفى. أنهكت حروب البلبونيز قوة اليونان وكانت بمثابة النهاية التراجيدية للأثينيين، فبعد ما حققه الأثينيون من انتصاراتٍ متلاحقة على الفرس، وكسبهم معركة سهل الماراثون (إحدى أهم المعارك اليونانية مع الفرس).

وبعد ما بلغته أثينا من نفوذٍ وقوةٍ بحرية، انتهى كل ذلك بحرب البلبونيز الثانية وبراية الاستسلام عام 404 قبل الميلاد، والتي كانت المفر الأخير للأثينيين بعد تدمير آخر أساطيلهم البحرية على يد الإسبارطيين، وتشكل حروب البلبونيز لدى أصحاب النظرية الواقعية في علم العلاقات الدولية، البداية الأولى لولادة مفاهيم النظرية الواقعية؛ كالقوة، الأمن القومي، توازن القوى، وهي المفاهيم التي تطورت عند الإيطالي نيقولا ميكافيللي، لا سيما في كتاب الأمير، ونضجت على يد الأمريكي هانس مورغانثو واضع الأسس العلمية للنظرية الواقعية.

إسبارطا بلاد العسكر والمحاربين قبل الحرب

سكن الإسبارطيون (الأدريّون) في القسم الجنوبي من اليونان، وكانوا يستعبدون من أدنى منهم رتبة، فلم يكن لديهم اهتمام بالعلوم والفنون، إذ كان توجههم إلى الحروب والغزو، حيث كان أهم ما يصبو إليه الحكام الإسبارطيين هو إنشاء جيش مدرب وقوي، وجعل كل الشبان الإسبارطيين مقاتلين أشداء.

وفي عام 800 قبل الميلاد برز في إسبارطا ليكورغوس (المشرع العظيم)، الذي سنّ قوانيناً تنص على منع السفر والتجارة وجعل جميع الرجال عساكراً، كما وضع على الحكم ملكين يراقب أحدهما الآخر، بيد أن السلطة الحقيقية كانت بيد الأشراف، لكن ما لبث أن اندثر هذا النظام وحل مكانه نظام وضعه الآيفور (مجلس الشيوخ الإسبارطي) وهو نظام استبدادي.

أثينا بلاد الفن والأدب قبل الحرب

على عكس الإسبارطيين كان الآثينيون (الآيونيون) أقل اهتماماً بالجيش والقتال، فكانت تشريعاتهم ونظمهم تقوم على الحرية والمساواة بين الرعية، كما تطور عندهم الأدب والعلم والفن، بالإضافة إلى قوة أساطيلهم البحرية وخبرتهم في البحر، وكان نظام الحكم عندهم ملكي في بداية الأمر؛ فآخر ملوكهم الوارثين الملك قدروس الذي حظي بحب واحترام عامة الناس.

بعد موته أصبح الأثينيون ينتخبون حاكماً من أسرة قدروس لمدة عشرة أعوام وبقي الحال كذلك حتى عام 613 ق.م، بعدها أصبحوا يختارون تسعة حكام من فئة الأشراف؛ جميعهم مقيدين من قبل مجلس الأمة (الباغوس)، حيث استبد هؤلاء بالناس، واستمر الصراع بين حزب العامة والخاصة الأثنِيَّيْن، إلى أن وصل كليثسنيس إلى حكم أثينا (رئيس حزب العامة)، الذي ساوى الجميع بالسياسة وأصلح شؤون الجيش والسياسة الداخلية.

لكن خصمه سغراس رئيس حزب الخاصة استنجد بالإسبارطيين فساعده ملكهم كليومينس، كان ذلك من خلال طرد كليثنيس مع 700 عائلة من حزبه، بعدها بدأت حقبة الصراع الآثيني مع الفرس.

وقائع حرب سهل الماراثون

ساندت أثينا حلفاءها الأيونيين (هم اليونانيون الذين سكنوا في أيونية بآسيا الصغرى على الساحل الغربي للبحر المتوسط)، في المعارك التي خاضوها ضد الفرس، ما أثار غضب داريوس ملك الفرس آنذاك.

وبعد أن أنهى حروبه على الأيونيين، جرّد حملةً إلى اليونان بقيادة مردونيوس، إلا أنه بعد أن قطع مضيق الدردنيل متوجّهاً إلى مقدونيا، هاج البحر وأغرق عدداً كبيراً من سفنه بلغ الثلاثمائة سفينةٍ، فتضعضعت القوات وخسر مردونيوس عشرين ألف مقاتلاً، وأُسر من قبل إحدى القبائل البربرية في مقدونيا، خابت تلك الحملة وكان ذلك عام 492 قبل الميلاد.

أعاد الملك داريوس الكرّة عام 490 قبل الميلاد، فأرسل جيشاً بلغ تعداده عشرين ألف مقاتلاً، وأسطولاً بحرياً بلغ عدد سفنه الستمائة سفينةٍ، وصل الجيش الفارسي إلى سهل المارثون الواقع شمال أثينا، وهناك كان الأثينيون متأهبين للحرب بقيادة ميلتيادس الذي تمكن من تطويق الجيش الفارسي بجيشٍ بلغ تعداده عشرة آلاف مقاتل، تمكن الجيش الأثيني من قتل قرابة 6000 آلاف جندي فارسيً ما اضطر بقية الجيش إلى الهرب بالسفن التي أتوا بها، فشكل انتصار سهل الماراثون نقطة تحول في التاريخ اليوناني، إذ أثبت القدرات القتالية لليونان أمام الفرس.

كما عزز من مكانة أثينا إذ تمكنت من هزيمة الفرس دون مساعدة الإسبارطيين وهم من كان يعقد عليهم الأمل عسكرياً، وفي عام 480 قبل الميلاد وصل ثمستكليس إلى حكم أثينا، فقوّى الأسطول البحري، ومن ثم كان أن ثبتت أثينا مجدداً أمام حملة زركيس ابن داريوس، لكن هذه المرة بالتعاون مع إسبارطا، وبعدها تعاظمت قوة أثينا وبدأ عصرها الذهبي إذ فرضت سلطتها على مدن اليونان وأجبرتهم على دفع الخراج السنوي لها، ما أثار حنق الإسبارطيين كما سنتحدث لاحقاً.

الخوف الإسبارطي من قوة أثينا

تعاظمت قوة أثينا كما ذكرنا ولا سيما بعد حروبها مع الفرس والانتصار في معركة سهل الماراثون، فتزايدت قوة أسطول أثينا في البحر الأبيض المتوسط، تلك القوة التي وصلت إليها أثينا كانت بمثابة الإخلال بميزان القوى الذي كانت تتقاسم كفّتيه أثينا وإسبارطا، فكان ذلك _مع ما يرافقه من خوف الإسبارطيين على أمنهم ومستقبلهم _ بمثابة جرثومة الحرب بين البلدين.

ويتحدث ثيوسيديدس في كتابه حروب البلبونيز قائلاً: "إن الأسباب الحقيقية للحرب بين أثينا وإسبارطا هو تعاظم قوة أثينا والخوف الذي زرعه هذا التعاظم لدى إسبارطا"، بالتالي جاءت الحرب بمثابة ضربة وقائية قامت بها إسبارطا لتحمي مستقبلها ونفوذها، أي أن الخلل في ميزان القوى أدى إلى الحرب بين الدولتين.

ظهر خوف إسبارطا من طموحات أثينا عندما قامت فيها ثورة الهلّوت (الأقنان الموجودين في إسبارطا)، فأرسل حلفاء إسبارطا من جميع أنحاء اليونان دعماً عسكرياً لها، ومنهم أثينا، إلا أن إسبارطا سمحت لكل القوات بالدخول، باستثناء القوات الأثينية، خوفاً من أن يتبدل ولاؤهم، ويضربوا بالإسبارطيين، وبعدها وجد الإسبارطيون أن توجيه ضربة عسكرية مبكرة لأثينا يحد من تعاظم قوتها ومن الأخطار التي قد تشكلها مستقبلاً، فكان أن بدأت حروب البلبونيز عام 431 قبل الميلاد.

حرب البيلوبونيز الأولى وتفشي الطاعون بين الأثينيين

بدأت الحرب بهجوم إسبارطي على شبه جزيرة أتيكا القريبة من أثينا وفيها الأتيكيون حلفاء أثينا وذلك عام 431 قبل الميلاد، حيث كانت إسبارطا تعتمد على قوتها البرّية في حين أن أثينا كانت متفوقة بحرياً. اتبع الجيش الإسبارطي استراتيجية غزو الأراضي المحيطة بأثينا بغية حرمانها من الأراضي المنتجة والتضييق عليها، إلا أن الأثينيين لم يعانوا من ذلك كثيراً، حيث بإمكانهم الوصول إلى البحر.

احتل الإسبارطيون أتيكا ومكثوا فيها أربعين يوماً، تجنب الأثينيون المواجهة المفتوحة مع الإسبارطيين وبدلاً من ذلك قاموا بهجوم بحري وتمكنوا من الفوز على الإسبارطيين، بعدها بعام ألقى الحاكم الأثيني بريكليس خطبته المشهورة باسم (خطبة الجنازة) وهي بمثابة تأبين لموتى الحرب وتمجيداً لهم، وتحدث فيها عن معاني المجد والبطولة التي تتمتع بها أثينا، مستحثّاً همم الأثينيين بأن تكون قرابينهم وتمجيدهم فعالاً في المعارك القادمة، لأنه كان يرى بأن من ماتوا يستحقون أكثر من الخطب والكلام.

بيد أن مرض الطاعون انتشر في أثينا عام 430 قبل الميلاد، ومات على إثره ثلاثين ألف مواطناً، بالإضافة إلى الجنود والبحارة، وكان الحاكم الأثيني بريكليس ضمن من ماتوا بالطاعون مع أبنائه، فبسبب تفشي الطاعون خرج الإسبارطيون من أتيكا مخافة العدوى.

تأثير وفاة بريكليس على الحرب

بعد موت الحاكم بريكليس، أصبح الأثينيون أكثر عداوةً في القتال، وحوّلوا استراتيجيتهم من الدفاع إلى الهجوم، ذلك بعد أن تولى كيلو (Celon) حكم أثينا، فسلم قيادة الأسطول الأثيني للقائد ديموثسينيس (Demosthenes)، حقق الأثينيون بعض الانتصارات وتواصلت غاراتهم على البلبونيز، وامتدت عمليات الأثينيين إلى بيوتيا وإيتوليا.

وكانت الحرب المباشرة الأولى في بيلوس التي تقع في جزيرة صغيرة تدعى سباكتريا وهناك كان النصر حليف الأثينيين، وبقي الجنود الإسبارطيون محاصرين في سباكتريا لأسابيع، ثم ما لبثوا أن وقعوا في الأسر الأثيني، وبلغ عدد الأسرى الإسبارطيين 300 جندي، وكان ذلك انتصاراً لكيليو ومن ثم استخدم أولئك الأسرى كورقة ضغط في مفاوضاته مع الإسبارطيين.

على إثر ذلك جرد القائد الإسبارطي براسيداس (Brasidas) حملةً قطعت اليونان طولاً ووصلت إلى أمفيبوليس (المستعمرة الأثينية التي تسيطر على مناجم الفضة)، وفي حروب السيطرة عليها قتل كل من براسيداس وكيلو، وجرت بعدها الهدنة ووافق الطرفان على تبادل الرهائن.

تأثير موت صقور الحرب على السلام

بعد موت صقور الحرب كيليو وبراسيداس (أطلق عليهم لقب صقور الحرب، لأنهم كانوا الأكثر حماساً لبلادهم وللنصر بالحرب) وقعت اتفاقية سلام بين الطرفين لمدة خمسين عاماً، على أن يخرج كل طرف من مناطق الطرف الآخر، باستثناء نيسيا (Nisaea) وبلتا (Plataea)، اللتان ستظلان بأيدي الأثينيين، مقابل أن يعيدوا الأسرى الإسبارطيين، ويقدموا الدعم للإسبارطيين في حال تمرد الأقنان (الهلوت) على الإسبارطيين، إلا أن السلام لم يدم خمسين عاماً بل كُسر عام 414 وبدأت الحرب من جديد.

نصر إسبارطا في الحرب

كسب الإسبارطيون أكبر معركة ضمن حروب البلبونيز حيث واجهت جيوش أرغوس، ومانتيناو، وأركاديا (حلفاء أثينا)، بالإضافة إلى الجيش الأثيني، حيث تمكن الحلفاء من النجاح بدايةً، لكنهم فشلوا في الاستفادة من نجاحاتهم، مما مكّن قوات النخبة الإسبارطية من الفوز على القوات المتحالفة، وكانت النتيجة نصراً تاماً لإسبارطة، وأنقذ هذا النصر إسبارطا من هزيمة استراتيجية، إذ سحبت إسبارطا نفسها من حافة الهزيمة المطلقة، وأعادت هيمنتها على جميع أنحاء البلبونيز.

هزيمة الأثينيين في صقلية وحرب البيلوبونيز الثانية

كانت الحملة التي أرسلتها أثينا لدعم حلفائها الأيونيين في جزيرة صقلية الإيطالية أمام هجوم جيش سيراكوز (أحد المدن الإيطالية في صقلية)، بمثابة الخطوة التي أوهنت وأضعفت الأثينيين، حيث وضعت أثينا ثقلاً كبيراً تمثل بـ 100 سفينةٍ وخمسة آلاف مقاتل.

إلا أن الجيش السرقسي تمكن من إنزال الهزيمة بالجيش الأثيني، وتلاحقت هزيمة الأثينيين في سلسلة من المعارك، مُنعوا خلالها من دخول صقلية، ثم وصل أسطول أثيني جديد لدعم الجيش الأثيني، إلّا أنه لم يغيّر موازين الحرب، إذ توالت المعارك وهزائم الأثينيين، فأُجبروا بعدها على خوض معركةٍ بحرية كبرى كانت بمثابة النهاية للقوات الأثينيية.

إذ تمكن الأسطول السرقسي من هزيمة الأسطول الأثيني وأسر واستعباد الجنود والبحارة الأثينيين الذين نجوا، كان للدعم الإسبارطي دور كبير في الانتصارات السرقسية، بعد ذلك بدت أثينا في وضعٍ يتيح للإسبارطيين توجيه ضربتهم النهائية لها ضمن حرب البلبونيز الثانية، إلا أن الأثينيين تمكنوا من الصمود وفازوا على الأسطول الإسبارطي في سلسلة من المعارك امتدت من عام 410 إلى عام 406 قبل الميلاد، بذلك استجمع الأثينيون جزءاً من قوتهم، على الرغم من تلقي إسبارطا دعماً من الفرس، وتثويرها للأيونيين (حلفاء الأثينيين) ضد أثينا.

نهاية الحروب البيلوبونيزية

بقيت المعارك على حالها إلى أن وصل القائد الإسبارطي لايساندر (Lysande) إلى قيادة الأسطول الإسبارطي، وكان قائداً ذكياً في الحروب البحرية، فاستخدم الحيلة في استجرار الأسطول الأثيني، إذ توجه بأسطوله نحو مضيق هيلاسبوت، فهناك توجد مخازن الأثينين من حبوبٍ ومؤونة، بذلك خاف الأثينيون على تلك المخازن بأن يقوم الإسبارطيون بتدميرها ما يجعل الأثينيين في حالة من الجوع، فلحق الأسطول الأثيني بأسطول القائد لايساندر، ووقعوا بالفخ فالتف عليهم وتمكن من تدمير 168 سفينةٍ من الأسطول الأثيني ولم ينجُ سوى اثنا عشر سفينة.

بالإضافة إلى أن الإسبارطيين أسروا ثلاثة آلاف جندي وبحار أثيني، كان ذلك عام 405 قبل الميلاد، وفي عام 404 أعلن الأثينيون استسلامهم بشكلٍ نهائيٍ، وبسطت إسبارطا سلطتها على بلاد اليونان دون منازع، واستمر الأمر كذلك، إلى أن ظهرت الدولة المكدونية في الشمال، وتمكنت من بسط سيطرتها وسلطتها على اليونان، في عهد الإسكندر الأكبر.

تأريخ حروب البيلوبونيز في كتاب

كان المؤرخ الأثيني ثيوسيدس أول من أرخ حروب البلبونيز، متبعاً تسلساً زمنياً صارماً في تسجيل الأحداث، إذ كان يسجل الأحداث بعد وقوعها بعام حيث تكون اكتملت أحداث الحرب، وكانت الحروب تشتدّ صيفاً وتتراجع شتاءً، كما أن ثيوسيدس أرّخ كثيراً من الخطب والكلام الذي وقع على لسان الأطراف المتحاربة، سواء في المفاوضات أو التهديدات.

بالإضافة إلى تسجيله للخطب التي كانت تقال أثناء الحرب ولا سيما أشهرها خطبة الجنازة للحاكم الأثيني بريكليس، كما أرّخ لحظات الرعب والخوف والهزيمة التي وقعت خلال سنين الحرب التي بلغت ربع قرن، وجمع كل ذلك في كتاب تاريخ حروب البلبونيز، الذي يبدأ فيه بالحديث عن تاريخ الإغريق، ويتحدث عن المواجهات والمعارك مع الفرس زمن داريوس وزركيس.

من ثم ينتقل ليبين أسباب الحرب بن إسبارطا وأثينا، بعدها يؤرخ الأحداث التي حصلت ضمن الحرب من انتصارات وهزائم وخسائر الطرفين، فقد أراد بكتابه أن يحقق ما حققه الشاعر الإغريقي هوميروس عندما كتب ملحمتي الإلياذة والأدويسة؛ في الأولى يتحدث هوميروس عن معركة طروادة، وفي الثانية يتحدث عن عودة أوديسيوس بطل ملحمته إلى وطنه، إلا أن ما طرحه ثيوسيدس كان واقعاً وحقيقةً، واشتهر عمله باسم (كلاسيكية ثيوسيديس) التي أثرت بمفكري العلاقات الدولية، لا سيما الواقعيين منهم، إذ يُصنّف من بين رواد الواقعية الأوائل كمورغانثو، ميكيافيللي وتوماس هوبز.

حروب البيلوبونيز جسدت استراتيجية الضربة الوقائية

تعني الضربة الوقائية القيام بعمل لصد وإسكات وتدمير أي تهديد محتمل لم تبرز عوامل تنفيذه والقيام به بعد، كما تعني توجيه ضربة قاضية لقوات العدو في قواعدها ومراكزها، للحيلولة دون تحويلها إلى خطر هجومي يهدد سلامة القوات التي عليها أن تأخذ زمام المبادرة لتكون البادئة بتسديد الضربة (يمكنك مراجعة مقال الرّدع في موقع بابونج)، وهو ما اتبعته الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة، و تم تبني تلك الاستراتيجية رسمياً في فترة حكم جورج دبليو بوش، ذلك من خلال وثيقة الأمن القومي التي صدرت عام 2002، التي نصت على تبني استراتيجية الضربة الوقائية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر وتدمير أبراج التجارة في أمريكا، لكن التجسيد الأقدم لتلك الاستراتيجية كان في حروب البلبونيز، إذ يعتبر هجوم إسبارطا على أثينا عندما أدركت تعاظم قوتها بمثابة الضربة الاستباقية، وهو يطابق ما قامت به أمريكا عندما بدأت بضرب تنظيم القاعدة في أفغانستان عام 2001 و عندما احتلت العراق عام 2003 (من حيث الاستراتيجية فقط).

ختاماً.. كانت حروب البلبونيز من أطول الحروب وأكثرها ضراوةً في التاريخ اليوناني، حيث بدلت وجه اليونان وأضعفت قوته، وكان لكتاب حروب البلبونيز الذي أرّخ فيه ثيوسيديس لحظات الحرب وأحداثها تأثيراً في أفكار أصحاب النظرية الواقعية، فمفاهيم القوة، والأمن القومي والضربة الوقائية التي يتحدث عنها الواقعيون، كان قد وضع أسسها المؤرخ ثيوسيديس قبل الميلاد.