قصة أول خط سكة حديد تحت الأرض في العالم.. مظلم وكئيب
تعتبر السكك الحديدية من أقدم وسائل النقل وأكثرها فعالية، حيث تطورت على مر السنين لتلبي احتياجات المدن المتنامية. وفي هذا السياق، برزت فكرة حفر أنفاق عميقة تحت الأرض لإنشاء خطوط سكة حديد، مما يوفر حلولاً مبتكرة لمشاكل الازدحام المروري وتوسع المدن.
وفي السطور التالية، سنتعرف معكم في هذا التقرير قصة أول خط سكة حديد تحت الأرض في العالم، تاريخه، وتقنياته، والتحديات التي واجهت مهندسيه، وآثارها على النقل الحضري.
فيديو ذات صلة
This browser does not support the video element.
أول خط سكة حديد تحت الأرض
على بعد أمتار قليلة من برج لندن، يمكنك ملاحظة مبنى دائري قصير بالقرب من تقاطع بيتي ويلز ولوير تمز ستريت، والذي يخلد ذكرى مترو أنفاق برج لندن السابق، الذي نقل الركاب لفترة وجيزة تحت النهر في سبعينيات القرن التاسع عشر، ويعرف الآن بأنه أول خط سكة حديد تحت الأرض في العالم.
على الرغم من إغلاقه منذ 150 عامًا، إلا أن أثر وجوده باق بيذكرنا بقطعة رائدة من الهندسة الفيكتورية، والتي يعود تاريخها إلى عام 1870.
تبدأ القصة خلال العصر الفيكتوري، عندما ازداد عدد سكان لندن بشكل كبير، مما دفع إلى بناء جسور واسعة النطاق ووسائل نقل لتسهيل عملية نقل الجماهير في أماكن مختلفة حول العاصمة. من هنا، تم تحويل نفق التايمز، الذي افتتح للمشاة في الأصل عام 1843، إلى استخدامه لحركة القطارات بحلول عام 1869، ليشهد بذلك افتتاح أول مترو أنفاق.
قبل هذا المشروع، كان المهندس بيتر دبليو بارلو، الذي عاش في لندن بالفترة من 1809 إلى عام 1885، قد حصل على براءة اختراع لطريقة جديدة للحفر، على أمل إنشاء شبكة من الأنفاق لنقل الناس تحت المدينة. لكنه واجه تحديًا صعبًا، حيث كان المسؤولون في المدينة حذرين من التكلفة بعد الميزانية المتصاعدة التي اقترحها لمشروعه، كما كانوا قلقين من الوفيات التي وقعت من قبل أثناء بناء نفق التايمز نفسه، والـ 18 عامًا التي استغرقها لبنائه.
مع ذلك، طمأنهم تلميذ بارلو، والذي يدعى جيمس هنري غريتهد، بأنه يمكنه صنع أول درع حفر أسطواني، واستخدامه لبناء نظام نفق نقل تحت نهر التايمز مقابل تسعة آلاف وأربعمئة جنيه إسترليني.
وافق المسؤولون أخيرَا، وبدأ مشروع غريتهيد في فبراير عام 1869، حيث تم استخدام الدرع الحديدي الزهر لحفر الطين، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استخدام طريقة البناء هذه.
مواصفات النفق
كان النفق بطول 1340 قدمًا، يربط برج هيل شمال نهر التايمز بفين لين بالقرب من تولي ستريت في الجنوب. وكان داخل النفق سكة حديد بعرض 2 قدم و6 بوصات. وقد أثبت هذا البناء السريع نجاح درع الحفر وتم استخدامه لاحقًا لبناء سكة حديد سيتي وساوث لندن، أول خط مترو أنفاق عميق في العالم.
اكتمل النفق في أقل من عام، حيث استقبل أول ركاب له بشكل تجريبي في فبراير عام 1870. بعدها، تم إطلاقه للجمهور في أغسطس عام 1870. ووقتها، علق البعض على أن الرحلة لم تكن ممتعة بشكل كاف، لأن درجة حرارة المترو مرتفعة بعض الشيء، لكن يمكن تحملها لفترة قصيرة. كما إن الممر خشن إلى حد ما، وحركات الحافلة متقطعة، خاصة عند الانطلاق.
نهاية حزينة مبكرة
بحلول 7 ديسمبر من ذلك العام، توقف مترو أنفاق البرج بعد مواجهة الشركة مشاكل مالية، حيث لم ترسم التقارير من ذلك الوقت صورة وردية عنه. وصفه أحد المعلقين بأنه "نفق صغير كئيب ومثير للاشمئزاز"، بينما وصفه آخر بأنه "أنبوب وبائي".
وبعد بضعة أسابيع فقط، تم تحويل النفق للاستخدام للمشاة مرة أخرى، حيث يدفع العملاء نصف بنس لاستخدامه. وتمت إزالة المصاعد الخاطة بالمترو، واستبدالها بدرج من 96 درجة، مع وضع مصابيح الغاز في جميع أنحاء النفق للإضاءة. وبالفعل، كان 20 ألف شخص يستخدمون النفق أسبوعيًا، على الرغم من سمعته بأنه مظلم وكئيب ومضغوط.
مع اقتراب نهاية القرن، توقف عمل هذا النفق حتى للمشاة، وذلك بعد افتتاح جسر برج المحلي عام 1894. لم يكن الأخير مجانيًا للاستخدام فقط، بل كان لدى المشاة خيار عبور النهر على مستوى المركبات أو باستخدام ممرات المشاة المرتفعة، وهو خيار أكثر متعة من نفق مظلم ومزدحم.
وبحلول عام 1897، تقدمت شركة مترو أنفاق البرج بطلب لتفكيك الشركة وأغلقت النفق في العام التالي. وباعت النفق مقابل 3000 جنيه إسترليني لشركة لندن للطاقة الهيدروليكية (LHPC)، التي استخدمته لخطوط الطاقة.
تم هدم المدخل الأصلي لمترو أنفاق برج هيل لاحقًا، وقامت شركة لندن للطاقة الهيدروليكية، بإعادة بناء له عام 1926، مع كتابة توضح تاريخ البناء الأصلي. وفي ديسمبر عام 1940، تعرض النفق لأضرار بسبب قنبلة نازية، ولكن بشكل مثير للدهشة لم يتم اختراق بطانته وتمكنوا من إصلاحه.
مصيره الآن
في وقت لاحق حوالي الثمانينيات والتسعينيات، تم هدم المدخل الأصلي المقابل لشارع فين لين على الجانب الجنوبي من نهر التايمز. والآن، لا يتبق سوى أثار هذا النفق الذي كان شاهدا على أول خط سكة حديد تحت الأرض في العالم، حيث يمكنك رؤية بقايا المبنى فوق الأرض، عبارة عن أسطوانة مصنوعة من الطوب تقف فوق فتحة الدخول الشمالية إلى النفق.
والجدير بالذكر، إن هذه الأسطوانة ليست مبنى أصليًا، بل مدخل بديل يعود إلى عشرينيات القرن العشرين. والآن يمر بجوار هذا المبنى الأسطواني ملايين السياح كل عام في طريقهم إلى برج لندن، ليستوقفهم ويلتقطوا بجواره مجموعة من الصور، رغم إن غالبيتهم لا يعرفوا تاريخه ولا القصة التي وارءه، والتي تعود إلى القرن التاسع عشر، حيث كان أول خط سكة حديد تحت الأرض في العالم.