ما المقصود بحرب الخنادق، وكيف يعيش الجنود فيها
لم تحمل خنادق الحرب العالمية الأولى أيّ مجد أو رفاهية، وكانت الحياة ضمنها تعطي الشعور بالانتقال إلى عالم آخر، عالم مليء بالجوع والخوف والترقب والقذارة والملل الشديد، ومع تطور مجريات الحرب واقتناع الأطراف المتحاربة على مختلف الجبهات بطول أمد الحرب وتبدد أحلام الاجتياح السريع، تطورت الخنادق لتتحول من مجموعة حفر صغيرة متصلة أو سواتر ترابية إلى حصون منيعة وعصية على الاختراق.
فلنطّلع في البداية على لمحة تاريخية ترينا كيف بدأ هذا النمط الوحشي من الحروب واستمر منذ خريف عام 1914 وحتى صيف عام 1918:
بدأت الحرب العالمية الأولى على الجبهة الغربية بهجوم ألماني واسع كان هدفه العاصمة الفرنسية باريس، وبسبب معرفة الألمان بتكثيف الفرنسيين لوجودهم العسكري على الحدود أعدّوا العدة لهجوم ألماني وشيك، فقام الألمان بالهجوم عبر بلجيكا بهدف الالتفاف على فرنسا والوصول إلى باريس من الشمال، إلا أن الجيش البلجيكي لم يكن فريسة سهلة كما كان متوقعاً، فقد أبدى مقاومة ضارية مكلّفا الألمان وقتاً مهماً ومعطياً الفرصة للجيش الفرنسي لتدارك الموقف وتحصين الدفاعات، على الجبهة المتسعة تدريجياً.
حاول كل من الطرفين الالتفاف على الآخر والوصول إلى خطوطه الخلفية، حيث كانت الخنادق الطريقة المثلى لتثبيت خطوط الدفاع ومنع العدو من اختراقها بسهولة، فبدأ الطرفان برسم الخنادق عند خط التماس حتى الوصول إلى خط امتدّ من الحدود السويسرية جنوباً وحتى بحر الشمال، دون وجود أي طريق آخر للالتفاف ولا وسيلة للتقدم سوى المواجهة المباشرة، التي كانت كفتها ترجح دوماً للطرف المدافع، ممّا خلق حالة المراوحة التي استمرت 4 سنوات.
وصف للخنادث الحربية
لا يمكننا إنكار أن فكرة بناء خندق للاحتماء من النيران المعادية فكرة قديمة، فقد استخدمت على نطاق ضيق في بعض حروب نابوليون وبشكل أوضح في الحرب الأهلية الأميركية، حيث يحدد الجنود المدافعون مناطق سيطرتهم ويستعدون لمقابلة الأعداء وهم محتمون بخنادقهم.
في البداية، وكما أوضحنا بشكل مختصر، بدأت الخنادق بشكل خط واحد يمتد على طول الجبهة، يحتمي به جنود الصف الأمامي في الدفاع، وينطلقون في هجماتهم المعاكسة، وكانت طبيعة الخنادق تتنوع بحسب طبيعة كل منطقة، فهي إما محفورة ضمن التربة الرخوة كما في فرنسا، أو منحوتة في الصخر، أو محفورة في الرمال كما في فلسطين، وأحياناً لم تكن محفورة بل "مبنية" فوق الأرض كما في بلجيكا، حيث استخدمت مجموعات كبيرة من السواتر الترابية المدعمة بدلاً من الحفر في الأرض.
لكل من النماذج السابقة محاسنه ومساوئه، إذ كانت الظروف تختلف بشكل كبير بين منطقة وأخرى، بل وبين خندقين متجاورين حتى، ففي فرنسا كانت الخنادق تنهار بشكل مستمر بعد الأمطار بسبب حفرها في التربة الرخوة، مما دعا إلى تدعيمها بدعائم خشبية كي لا يضطر الجنود إلى حفر خندق جديد كلما هطل المطر.
بنية الخنادق في الحرب العالمية الأولى
مع مرور الوقت، وازدياد الحاجة للاستخدام طويل الأمد، تحول الخندق من حفرة في الأرض إلى قلعة دفاع حصينة متكاملة تتضمن جميع العناصر المهيئة للاستعمال طويل الأمد، وعلى الرغم من تعدد الجبهات والأطراف المتحاربة، كان الخندق النموذجي مؤلفاً ممّا يلي:
- أرض الموت (No Man’s Land)، وهي الفراغ بين الخنادق المتقابلة.
- الصف الأول من الخنادق، وهو خندق النار الأمامي المواجه للأعداء.
- الصف الثاني، وهو خندق الإمداد.
يحتوي هذان الصفان فيما بينهما خنادق طولية ينتقل عبرها الجنود بين الخطوط، إضافة لاحتمال وجود خنادق فرعية خاصة بالمدافع الرشاشة.
منطقة الموت:
هذه المنطقة التي يتوجب على أي طرف عبورها للوصول إلى خندق الطرف الآخر، يمتد عرضها من بضعة عشرات من الأمتار وحتى أكثر من 100 متر تبعاً للطبيعة الجغرافية لمنطقة الاشتباك، عبر الغابات والجبال والأنهار، بين البلدات والقرى أو ضمن أزقة البلدة نفسها في بعض الأحيان.
ضمن هذه المنطقة، امتدت خطوط طويلة من الأسلاك الشائكة المتقابلة، إضافة إلى خنادق صغيرة هجومية تدعى الخنادق المخترقة (saps) حفرها الطرفان للتغلغل في هذه المنطقة من أجل التنصت، أو لتشكل غطاء تعبره القوات المهاجمة وتخرج فوراً في مناطق متقدمة من منطقة الموت لاختصار هذه المسافة الخطيرة.
خندق النار الأمامي:
اختيرت مواقع حفر الخندق الأمامي بناء على عدة عوامل: مثل بعد الأعداء ومواقع ضعفهم، إضافة إلى استغلال معطيات التضاريس طمعاً في الحصول على أفضلية جغرافية، وهو ليس صفاً واحداً مستمراً بل مجموعة من الخنادق الصغيرة على خط واحد تقريباً، ضمن كل منها مجموعة من الجنود، ولهذا التصميم عدة منافع، إذا سقطت قذيفة في الخندق مثلاً لا يمتد أثر الانفجار خارج تلك المنطقة الصغيرة، مما يحمي باقي الجنود.
إضافة إلى ذلك، إذا سقط جزء من الخندق الأمامي بيد الأعداء، سيواجه العدو مشاكل كبيرة في محاولة الحفاظ على مكانه أو التقدم أبعد، فالقسم الذي كان خط إمداد خلفي مفتوح، يتحول بالنسبة للأعداء إلى جبهة أمامية مكشوفة، ويحاصر العدو في منطقة ضيقة إن لم تتمكن بقية قواته من احتلال الخنادق الأمامية الأخرى المجاورة. قد يكون هذا الخندق مكوناً من عدة مستويات، مستوى أمامي لقوات المشاة وآخر خلفه للقناصين أو الرشاشات.
خندق الإمداد:
يمتد هذا الخندق خلف خندق النار الأمامي بشكل موازٍ له تقريباً، تميزت هذه الخنادق بوجود حفر في جدرانها لتخزين الذخيرة والمؤن، أو لاختباء الجنود عند التعرض للقصف المدفعي من القوات المعادية، وشكلت هذه الخنادق صلة الوصل بين الخط الأمامي الساخن للحرب، وخطوط الإمداد الخلفية.
في هذه الخنادق تواجدت مقرات قيادة القوات على الأرض ونقاط الهواتف الميدانية التي كانت تنقل إحداثيات الأعداء إلى قوات المدفعية، كما ترسل تفاصيل التطورات الميدانية إلى القيادات العليا وتتلقى منها الأوامر.
طبيعة حرب الخنادق
كانت الفترة بين عامي 1914 و 1918 فترة استثنائية في التاريخ العالمي للعديد من الأسباب، في هذا العام تحول العالم من حروب الحركة والزحف إلى حروب التمترس والتحصن، وإن حاول الأطراف على الجبهات المتقابلة كسر التوازن المسيطر بشتى الطرق، كالغازات السامة، والدبابة التي أدخلها الجيش الملكي البريطاني في الحرب لتغطية الجنود، إضافة إلى غواصات الجيش الألماني والحرب الجوية الدائمة طيلة الحرب، إلا أن أياً من هذه الوسائل لم يكن كفيلاً بترجيح الكفة إلى طرف دون الآخر، وبقيت كلمة الحسم لجيوش المشاة المتواجدة على الأرض لتحاول التقدم واقتحام خنادق الأعداء.
كان الهجوم يتم بشكل واحد في معظم الحالات، مع بعض الاختلافات الطفيفة، حيث يبدأ بتمهيد جوي ومدفعي يمتد من بضعة ساعات حتى أكثر من أسبوع من القصف المتواصل بحسب قوة دفاعات الخصم ومهارته في إخفاء أسلحته الثقيلة ومدافعة الرشاشة، يتلو القصف هجوم بري لجحافل المشاة من خندق النار الخاص بهم أو خنادقهم المخترقة لمنطقة الموت حتى الخندق الأمامي المعادي.
بالرغم من أن المسافة التي ينبغي على الجندي عبورها قد لا تزيد عن بضع عشرات من الأمتار، إلا أنها في الغالب أخطر رحلة يعبرها في حياته، إذ يحتاج للخروج من خندقه، عبور السلك الشائك الخاص بجشيه، الجري بأسرع ما يمكن عبر منطقة الموت، إيجاد طريقة لعبور السلك الشائك الآخر ودخول الخندق الأمامي المعادي، كل ذلك مع محاولة تفادي نيران المدافع الرشاشة المعادية، والتي غالباً ما توجه إلى أماكن محددة، كثغرات متروكة مسبقاً ضمن الأسلاك الشائكة ليعبر الجنود المهاجمون ضمنها وتتحول إلى مصيدة لهم، أو نهايات الخنادق المخترقة التي يخرج الجنود منها.
وهكذا نجد أن الطرف المهاجم دوماً ما يتكبد خسائر كبيرة بسبب التطور الكبير في وسائل الدفاع والذي كان أسرع من التطور الحاصل في الأسلحة الهجومية، لذلك استمر الوضع على ما هو عليه فترة طويلة، حدث فيها عدد كبير من الاشتباكات والمعارك دون تحقيق أي تقدم حقيقي سوى بضعة أمتار أو كيلومترات في أفضل الأحوال.
الحياة اليومية في الخنادق.. الروتين والشروط الصحية
لعل العنوان الأنسب لهذه الفقرة هو "الموت اليومي في الخنادق"، إذا كان الموت رفيقاً دائماً لتعيسي الحظ الذين سكنوا تلك البؤر النتنة، وأتى على مختلف الأشكال ونتيجة لطيف واسع من الأسباب، من شروط صحية شديدة السوء، أمراض وطفيليات متفشية، والخطر الدائم لحدوث هجوم من قبل الأعداء، كل ذلك ساهم في جعل الحرب العالمية الأولى إحدى أكثر الحروب فتكاً بالجنود في التاريخ، حيث قتل حوالي 10% من الجنود المشاركين في الحرب، وهذه النسبة تقارب ضعف نسبة القتلى من الجيوش في الحرب العالمية الثانية بالرغم من طول تلك الأخرى والدمار الذي لحق بالعالم بسببها.
إلا أن ظروف الحياة اختلفت بشكل كبير مع تطور الحرب وتغير الجبهات، ففي حين أعد الألمان نفسهم منذ البداية للبقاء مدة طويلة ضمن الخنادق، حيث حفروها بشكل أوسع من الحلفاء وجعلوها مخدمة بخنادق توصيل مع خنادق الإمداد منذ البداية وأمنوا خطوط هواتف للتواصل بل حتى تمديدات كهربائية أحياناً، اعتبر الحلفاء أن الأمر مؤقت في البداية وقاموا بالحفر في خط التماس على استعجال متوقعين أنهم سيتجاوزون هذا الخط ويقتحمون الأراضي المعادية بعد فترة وجيزة. فيما يلي بعض من تفاصيل الحياة داخل الخندق:
الشروط الصحية:
كانت خنادق الحرب العالمية الأولى مكاناً قذراً، كريهاً، تستطيع معرفته من رائحته قبل الوصول إليه في معظم الأحيان، حيث فاحت في الخطوط الأمامية رائحة العرق الجاف لجنود لم يحصلوا على فرصة للاستحمام طيلة أسابيع أحياناً، وامتلأت أجسامهم وملابسهم بالجرب والقمل الذي ناسبته الرطوبة والحرارة المتفشية، إضافة إلى مئات الآلاف من الجثث المدفونة في قبور غير محفورة جيداً أو ضمن جدران الخندق، ناهيك عن الجثث المرمية في منطقة الموت، والتي لم يكن بإمكان أحد الوصول إليها لدفنها حتى.
شكلت الجرذان على سبيل الخصوص مشكلة حقيقية صحيّة ونفسية للجنود، وانتشر العديد من أنواعها إلا أنّ نوعاً واحداً بالتحديد وهو المدعو بالجرذ البني حصل على السمعة الأسوأ لعادته في التغذي على عيون الجنود القتلى وأكبادهم، تاركاً الجثث المشوهة بمنظر مرعب لزملائهم الأحياء، والذين كانوا على يقين أنهم سيلاقون نفس المصير في القريب العاجل، كان الجرذ الواحد من هؤلاء يصل أحياناً إلى حجم القط، لكن جميع محاولات التخلص منها باءت بالفشل، إذا كان يكفي زوج واحد من هؤلاء للتكاثر والوصول إلى 900 منها خلال عام أو أقل في هذه الظروف "المثالية".
كما انتشرت ظاهرة تدعى "قدم الخندق" (Trench Foot) وهي إصابة فطرية للقدم تنتشر بسبب الرطوبة والقذارة والوحل المحيط بالقدم بشكل مستمر، قد يصيبها الغانغرين (Gangrene) وتنتشر بسرعة مما يوجب قطع القدم المصابة.
علاوة على كل الظروف الصحية، كان كابوس الاختناق بالغازات السامة هاجساً يشكل خطراً دائماً للجنود على الطرفين، ففي البداية لم يكن هذا الأمر متوقعاً ولم يخطر للقيادات أن تتخذ إجراءات حماية، فتساقط المئات من الجنود دفعة واحدة صرعى أو مصابين بالغثيان والقياء غير قادرين على الحركة دون معرفة الأسباب، ثم بدأ توزيع الأقنعة الواقية وظهرت أجهزة الإنذار البدائية التي كانت عبارة عن أجراس مصنوعة من القذائف المدفعية الفارغة، يدقها الجنود لإعلام زملائهم عندما يشمون رائحة غريبة أو يسمعون صوت انبثاق الغازات من مستوعباتها قريباً منهم.
الروتين اليومي:
لعل العدو الأكبر الذي واجه الجنود في تلك الفترة كان الملل القاتل، إذا كان من الممكن أن يقضي الجندي نهاراً كاملاً على أتم الاستعداد في انتظار حدوث الهجوم المترقب من الطرف المعادي دون وجود أي إشارة بقرب ذلك الهجوم أو بعده.
تضمن الروتين اليومي للجنود المناوبين على الخط الأمامي التفقد اليومي للأسلحة والذخائر، الإفطار الذي كان مكوناً من البسكويت القاسي والشاي وربما مشروب الرّم (Rum) في بعض الأحيان، إصلاح الانهدام في الأنفاق والأسلاك الشائكة التي قد يكون سببها القصف المدفعي المعادي أحياناً، أو الأمطار والعواصف أحياناً أخرى. كان هناك اتفاق غير مكتوب في معظم الجبهات على ما دعي بـ "هدنة الإفطار" حيث توقفت أعمال القنص لتسمح لقوافل الطعام بالوصول إلى الجنود المرابطين في الخط الأمامي، وامتنع الطرفان عن القيام بأي تصرف عدواني حتى الانتهاء من الطعام.
إضافة إلى ذلك، كان من الروتيني للجنود الخروج في دوريات لتفقد منطقة الموت في الأيام الضبابية أو حين تكون المسافة بينهم وبين الجيش المعادي كافية لتسنح لهم بالتجول، وكثيراً ما كان يلتقي الجنود من الأطراف المتحاربة في تلك المنطقة ليقع عليهم الخيار الصعب، إما أن يدع أحدهم الآخر يمر بسلام، أو قد يلجؤون للقتال باليدين والعصي وتبادل الشتائم ونادراً جداً ما كان يطلق أحد في حالات كهذه.
توزعت واجبات الحراسة الليلية على الجنود بحيث لا يحصل الجندي الواحد على أكثر من ساعتين من المراقبة في الليلة إلا في حالات الطوارئ، كان من المهم جداً ألّا تكون المدة طويلة ومنهكة للجندي الذي يجب أن يظل صاحياً، لأن عقوبة النوم أثناء نوبة المراقبة كانت الإعدام الميداني رمياً بالرصاص.
الجانب النفسي والإنساني للحياة في الخندق
لعله أضحى من الواضح الآن أن تلك الحياة القبيحة، والظروف السيئة التي تتجاوز قدرة أي إنسان على التحمل، ما كانت إلا لتولد عقداً واضطرابات نفسية عانى منها الجنود في ساحة المعركة، ولاحقتهم سنين طويلة بعد انتهاء الحرب وعودتهم إلى الوطن.
كانت الحرب العالمية الأولى هي أول مرة يظهر فيها ما سمي باضطراب صدمة القذائف (Shell Shock) والذي عرف لاحقاً باضطراب الشدة بعد الرض أو الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder) أو (PTSD) على سبيل الاختصار، دعي بصدمة القذائف بسبب ظن الجميع في تلك الفترة أن هذه الحالة النفسية سببها الضجيج غير المحتمل بسبب القصف الذي كان يستمر لأيام عديدة بدون توقف في بعض الأحيان.
أسباب اضطراب الصدمة لسكان الخنادق
في الحقيقة، لا يمكننا أن نعزي الاضطراب لسبب واحد لأن كل شيء يمكن أن يسبب الشدة النفسية في حفر الموت تلك، وهي حالات مختلفة تماماً عن جميع الحروب السابقة لذلك لم نشاهد مثلها في الحروب الصليبية مثلاً أو حروب نابوليون الأوروبية أو حرب الاستقلال الأميركية.
في الحروب التقليدية السابقة، كان الجندي يقف في صف واحد مع جميع رفاقه قبل بدء المعركة، يحارب وهو يعلم بوجود أصدقائه محيطين به، وتنتهي المعارك غالباً خلال فترات وجيزة، فإما أن ينتصر، وإما أن يخسر، أما في الحرب العالمية الأولى، يجلس الجندي أياماً طويلة في خندق قذر، لا يحيط به سوى عدد قليل من الجنود الذين يشاركونه هذا الجزء من الخط، يمتلئ أنفه برائحة القذارة والموت ويرى أشلاء رفاقه الممزقة التي تأكلها الحشرات والجرذان أينما أدار وجهه، دون أي بارقة أمل تلوح في الأفق.
أظهرت رسائل الجنود المرسلة إلى أهاليهم قباحة الظروف، وانقطاع الأمل في العودة إلى الوطن أحياء، حيث أرسل أحد الجنود إلى أمه:
"مرحبا أمي، أنا لم أقتل بعد لكنها مسألة وقت فقط".
كانت الحرب بين رجال جوعى مرهقين لا يرغبون.. إلا العودة إلى منازلهم
لا يمكننا أن نلوم الجنود المشاركين في الحرب على ما حصل، ففي الطرف الألماني، كان الجنود مقتنعين أنهم يدافعون عن أرض الآباء ضد محاولات دول الحلفاء لكسر شوكة الإمبراطورية الألمانية وتنحيتها عن موقعها الطبيعي في طليعة العالم، وفي الجانب الفرنسي من الجبهة حارب الجنود دفاعاً عن باريس التي اعتبروها أعظم المقدسات ورمز الحضارة في العالم، وبسقوطها تنتهي الحرب ولا يبقى شيء في أوروبا ليردع القوة الألمانية الغاشمة.
ولكن في الحقيقة، كانت الحرب الحقيقية بين رجال جوعى منهكين لا يرغبون بشيء إلا بالعودة إلى منازلهم، ليس لديهم حقد أعمى ورغبة في التشفي من الجندي المقابل، ولا يختلفون عن بعضهم بالكثير كما يحلو لقادتهم القول لهم.
السلام يشارك جنود الخنادق حربهم.. ليلة عيد الميلاد في عام 1914 ما الذي حصل؟
يذكر عدد كبير من الجنود المكلفين بدوريات التجول في منطقة الموت، أنهم عندما رأوا الجنود الأعداء من بعيد لم يخطر ببالهم أبدًا فكرة إطلاق النار على أولئك الرجال، حيث شعروا بمعاناة مشتركة، ولم يرغبوا بالمزيد من القتل غير المبرر إن لم يكن لديهم أوامر صريحة به.
لعلّ أكثر لحظة يظهر فيها النزوع نحو السلام الذي أبداه سائر الجنود على الأرض هو هدنة عيد الميلاد عام 1914. ففي السابع من شهر كانون الأول ديسمبر/كانون الثاني في ذلك العام، دعا بابا الفاتيكان بينيديكتوس الخامس عشر الأطراف المتحاربة إلى عقد هدنة مؤقتة في فترة الأعياد، ومن غير المستغرب أن أيًّ من القيادات العليا لهذه الدول لم تبد استجابة لهذه الدعوة.
أما على الأرض فكان الحال مغايراً تماماً، إذ حدثت هدنات غير رسمية في العديد من المناطق، واجتمع الجنود من الطرفين في الصلاة وتلاوة التراتيل بل ولعب مباريات كرة القدم الودية في منطقة الموت، مما أثار حفيظة القيادات العليا التي عاقبت الضباط المتورطين بتصرفات ودية مع الأعداء، وكثفت من الضخ الإعلامي الهادف لتأجيج الحقد في نفوس الجنود الذين أعلنوا العصيان السلمي في بعض المناطق.
في النهاية.. جميعنا يعلم أن الحرب أمر بشع، يذهب ضحيتها البشر والحجر وتخلف دماراً جسدياً ونفسياً يلاحق من عاشها فترة طويلة في المستقبل، إلا أن الحرب العالمية الأولى وظروفها الاستثنائية جعلتها أحد أسوأ التجارب التي خاضتها الإنسانية في تاريخها الطويل، وأظهرت الجانب القبيح من التطور التكنولوجي وآثاره المدمرة عندما يستخدم للقتل والدمار بدلا من إحداث التقدم والرخاء، ليقسم جميع الأطراف بعد انتهاء الحرب على عدم القيام بأي شيء مشابه في المستقبل.